وصلتني رسالة في صندوق بريد فيسبوك من سيدة رفضت أن تعلن عن اسمها، وحسابها على صفحتها الخاصة يحمل حروفًا مكتوبة بشكل غريب لا يشير إلى اسم واضح، ولا يوجد لها أي صور شخصية. لم يكن رفضها الإفصاح عن معلومات أكثر عنها غليظًا، بل كان أقرب للرجاء أو التمني، قائلة أن اسمها لن يفيد أو يضر، تطلب فقط أن نتحدث عبر الماسنجر.
لم أرد على الرسالة لعدم وضوح أي شيء عن صاحبتها، فأرسلت إليّ رسالة محملة بضيق ونفاد صبر، طالبة مني أن أخبرها صراحة برفضي أو قبولي، فكل ما ترغب به التحدث مع أحد لا يعرفها. وحسابي ظهر أمامها ضمن قائمة الأصدقاء المقترحين، فشعرت بارتياح لمظهري ولما أنشره، فقد اعتدت نشر خواطر يومية عن الأمل وتأمل الحياة، وصور لمناظر طبيعية، وصور ألتقطها لكل ما حولي عندما أقوم بجولة في الشارع، سواء الحدائق أو الأماكن الأثرية التاريخية، أو الأماكن التي لا يزورها الكثيرون كالصحراء والواحات وسيوة، وأتجنب العنف أو المنشورات المزعجة. قلت لها إنني لا أمانع في سماعها، لكن حسابها مريب وغير مطمئن.
اتفقت معي في الرأي وأقسمت أنها سيدة، وبدأت تكتب لتروي لي حكايتها…
المرض يسري في كل جزء بجسدي، حرارتي مرتفعة، وأشعر بالدوار والضعف. أكتب إليكِ ببطء بقدر ومضات لحظات الصحو التي تنتابني. أنا في أوائل الخمسينيات، أعيش بمفردي، أفراد أسرتي ما بين مسافر أو يعيش في مكانٍ آخر، الجميع منشغل بحاله وأولاده. حاولت الاتصال بهم؛ بدا البعض مشغولًا، والبعض لا يجيب على الهاتف. أحاول شغل وقتي بكتابة أو إعادة نشر منشورات على الفيسبوك. أراهم موجودون، لكنهم لا يجيبون. قالوا لي مرارًا إنهم يطمئنون عليّ من منشوراتي.
ثم قالت، سأعود بعد قليل انتظريني من فضلك… عادت معتذرة تقول “عفوًا وصلات السعال لا تنتهي، مع الحرارة، أشعر أن روحي تنسحب مني ببطء، كم هذا مؤلم، مع الصداع، اااه لا أتحمل…”
صرعني القلق عليها، سألتها عن حالتها بالتحديد، قرأت ما بين حروفي، وردت بكلمة واحدة “نعم”، هو ما تفكرين فيه. أخبرتها أن عليها التوجه إلى أقرب مستشفى أو تطلب الإسعاف أو رقم الطوارئ. كانت رسائلي تصل إليها بطيئة من شدة توتري، الحروف تتلعثم، لتصبح كلمات غير مفهومة، وأنا أسدي لها كل النصائح، وأسألها ثانية عن أهلها.
قاطعتني برسائل صوتية ضعيفة لأنها لم تعد قادرة على الكتابة، وترى كل مقترحاتي ساذجة، فقد أوضحت موقف أهلها المطمئن لمنشورات الفيسبوك. كانت تضغط على الحروف بوهن وهي تستمر في حكايتها وتقول “هكذا أفضل”، عشتُ أيام في حيرة وخوف لعدم قدرتي على طلب الإسعاف أو الطوارئ، بالتأكيد سأكون وحيدة، بجانب حزمة من المرضى لا يعرف عنهم أحد، غير معلوم مكانهم. وأنا بالفعل وحيدة ومريضة، أعيش في عزلة في منزلي، عزلة فرضتها عليّ ظروف الحياة وحيدة، وفي غنى عن المزيد منها.
طلبتُ منها الاطمئنان على احتياطاتها لعدم نقل العدوى، فقالت إنها ترتدي قفازًا كلما تعاملت مع عامل السوبر ماركت أو الصيدلية والبواب، لا يزورها أحد، ولم تعد قادرة على الخروج، ثم بدأ صوتها يتلاشى مع كثرة السعال وصعوبة التنفس. حاولتُ تهدئتها وقلت لها في محاولة يائسة أخيرة جاهدة لحثها على التفكير في احتمالات الشفاء، أن أملنا دائمًا كبير في رحمة الله بعباده.
فردت علي ّبأن الله وحده رحيم، لكن عباده يحسبونها بالورقة والقلم، فالطب يرى أن أصحاب الأعمار الكبيرة الأكثر عرضة للموت، لا أعرف كيف سيتم تصنيفي! ففي العمل والزواج خرجت من حلبة السباق من زمن، وفي الشعور بالصحة والحيوية قبل الإصابة بالمرض. لم أشعر يومًا بفارق عمر حقيقي – بخلاف الأوراق الرسمية – عن فتاة في العشرينيات، لكن في وضعي الحالي! بالتأكيد سيكون إنقاذ من في العشرينات أفضل الفرص للنجاة.
ريثما كنت أكتب لها الرد، فوجئت بوصول رسالة أخيرة “آسفة إني حملتك همي ومشاكلي، لكن كنت في حاجة للتحدث لأي أحد. شكرًا لاستماعك، خدي بالك من نفسك”.
قبل أن أجيب حظرتني على الفيسبوك والماسنجر. لا أعرف اسمها، ولا منطقة سكنها، أصحابها وصورها مختفية. حاولت أثناء الحديث البحث عن من علق أو أُعجب بمنشوراتها، لم أجد من يترك علامة أو أثر، وكأن مهمتها النشر، ومهمتهم المشاهدة في صمت.
الصمت… ذلك الكفن الأخير للوحدة والمرض والعجز.
لا أعرف من منا يعاني العجز أكثر من الآخر! ها هي ألقت عليّ بصاعقة وتركتني ورحلت، ولا أعرف هل رحيلها سيكون فقط عن قائمة رسائلي، أم عن العالم، لا أعرف كيف أساعدها!
أو ربما ساعدتها في أنني استمعت إليها باهتمام، ربما لم تجدني عاجزة كما أجد نفسي لأنها وجدت كل ما تحتاج وتفتقد، وجدت من يستمع إليها ويهتم لأمرها ولو كان شخصًا غريبًا عنها، وربما يكون هذا جزء من علاجها. باتت عندها معرفة أكيدة أن هناك من سوف تستند إليه بكلماتها في أوقات الضعف، ستلغي الحظر، وتتحدث إلى من يجيب ويستمع، من سيكون قريب وبعيد بما يكفي بالنسبة إليها.
كثيرًا ما يكون الاستماع للآخر بإخلاص هو المساعدة الأكبر التي يحتاجها، والتي لا تُكلفنا الكثير من الوقت أو الجهد، فقط نؤكد له ونقول “أنا موجود وبجانبك وقتما تريد”.