كتبت: وفاء
كنت طفلة في سن العاشرة حين بدأت تبادل الكلمات في مربع محادثة إلكترونية (شات) لأول مرة مع شخص لا أعرفه. ولا أعرف هل أعتبر نفسي من المحظوظين، كأحد أبناء جيل الألفية الذين عاصروا بدايات الإنترنت في طفولتهم، أم لا. لكن أظن أنني محظوظة.
كنت طفلة مليئة بالأحلام والحياة، وسرعان ما بدأت أكبر وبدأت ملامحي الأنثوية تشتد، لتحتد معها قيودي الأسرية والمجتمعية كذلك. كنت فتاة صغيرة فعلًا، لكن انغلاق الحياة حولي كان أكثر مما ينبغي أو أحتمل، فلم يكن متاح لي أن أجلس في غرفة مُغلقة بمفردي، إذ ليس لدينا أي شكل من أشكال الخصوصية (خاصة للفتيات). ولما وضعت رمز مرور لهاتفي، ثار أبي ومنعني من الاحتفاظ برمز المرور، في حين أن أحدا لا يقترب من هاتف أخي بتاتًا، فهو رجل حتى وإن كان يلعب ببنات الناس! بجانب أنه لا خروج من المنزل بمفردي إلا لأسباب دراسية، وهو وضع دام لأكثر من 20 عامًا من عمري! ولهذا، رغم حبي للناس والأصدقاء وكل شيء، لم يتبق لي سوى وسيلتين للانفتاح على العالم، الكتب والإنترنت. وأنا هنا لن أحكي عن الكتب التي كانت – ولا زالت – أحد نوافذي على العالم، والتي جعلتني ما أنا عليه اليوم. بل سأتحدث عن الإنترنت وأصدقائه الذين وجدت فيهم ملجأ كبيرا من الظلمات التي عشت فيها لسنوات طويلة.
لا أذكر كيف كانت أول محادثة مع شخص غريب، لكن هذا لا يهم، فالحديث باسم مستعار ومعلومات مستعارة مع شخص لا أعرف إن كان يقول أي شيء حقيقي عن نفسه ليس أمرا يعول عليه كثيرا. لكن تغير الأمر مع دخولي إلى العوالم الزرقاء، الأكثر ارتباطا بواقعنا المعاصر، وبذلك أعني فيسبوك وتويتر.
بدأت رحلتي مع فيسبوك في المرحلة الثانوية عام 2012 تقريبا. وكان أول رد فعل تجاه تسجيل حساب وإعطاء بياناته لأبي (ليفتحه متى يشاء ويكون رقيبا على ما أفعل) هو الرفض والتجهم، لأني فعلت ذلك من وراءه!
مرت أشهر قليلة وأُقفل الحساب بسبب صدفة قدرية رضي عنها أبي، وعدت أدراجي بلا أي حضور إلكتروني، وظللت ساخطة على حياتي البائسة التي لا أقدر فيها على أن يكون لدي حساب على موقع افتراضي! ربما لأنني سألوث شرف العائلة بهذا الحساب، أو لأن أبي “يثق في لكنه لا يثق في الطرف الآخر” كما كان يقول دائما. وفي المقابل، كان لدى أخي حسابات كثيرة دون أدنى مشكلة، فلا بأس عليه من الآخرين. أما الخوف كله ينصب على الفتيات وحسب، سواء كانت مخاوف حقيقية أو أوهام، لنكون – كفتيات – أكثر انغلاقا وخوفا من مواجهة العالم الخارجي بمفردنا.
تكرر الأمر في الجامعة، وبدأت رحلتي الشرعية والرسمية مع فيسبوك، وسرعان ما اختنقت لأنني لم أقدر على كتابة أي شيء دون تعليق غاضب أو لاذع من أبي، حتى وإن كان ما أقول هو كلمة “يا بت” لإحدى صديقاتي في التعليقات. اختنقت لكوني يجب أن أطابق المعايير المطلوبة، وهي ليست أخلاقية وحسب، بل حتى معايير “الهزار والشبحنة” صارت مُقيدة هي الأخرى. لهذا ذهبت إلى العالم الآخر الأقل زرقة، وهو تويتر، الذي بالتأكيد لن يعرفني فيه أحد من أهلي لأنهم كانوا أول من أحظرهم، وفعلت!
وبدأت رحلتي الافتراضية مع الأشخاص الأغراب الذين تحدثت معهم عن كل شيء في الحياة، وأعتبر نفسي نضجت بسبب ما عاصرته معهم شخص بعد آخر. هذا بخلاف حالة الحنق والخوف من أن يكتشف أبي يوما أن لي حسابا على تويتر، أعلق فيه لشاب أو أكتب مقطع من أغنية رومانسية لحماقي! كان هذا جل ما يرعبني لسنوات طويلة، ولأجله كنت أحذف تويتر مرارا وتكرارا من هاتفي حتى إذا فَتشه أحد، لا يكتشف حسابي ويرى عُهري وحديثي العادي جدا مع الشباب!
لا أذكر عدد لحظات الفزع ونوبات القلق التي مرت عليّ بسبب هذا التخيل، هذا وحسب! وكأنني أبيع متفجرات مثلا وأخشى أن تداهمني الشرطة في أي لحظة! لكن لندع ذلك جانبا، فألمي نابع من ذكورية أسرتي وليس من تويتر الذي لا زلت أحبه، وأعتبره نقطة أكشف فيها عن هويتي الحقيقية، وفيها يقول لي من يعرفني ويتابعني جيدًا: “أنتي محجبة على فيسبوك وبتقلعي على تويتر”، ولا أغضب من ذلك لأن أحدا لن يقبل أن يراني بحقيقتي وبأفكاري التي اخترتها لنفسي، لا بالصورة النمطية التي يريدونني أن أكون عليها. لكن دعنا من هذا كله.
مرت السنون ولم تتقدم حياتي إلا على الإنترنت. المتابعون يزدادون، ودائرة الأصدقاء تكبر. تعرفت على من يريد أن “يشقطني”، وعلى من يريد أن يستغلني، وعلى أصدقاء يكنون لي الحب ويقدمون لي النصيحة الصادقة أيضا، ومنهم من التقيت به بعد سنوات من المحادثات الافتراضية.
بمرور الوقت كان يرحل أو يختفي كثيرون ليظهر آخرون غيرهم، كما هي الحياة تماما. أحزن على رحيل هذا وأسعد باقتراب هذا، فهم جزء من عالمي رغم كل شيء. لكن رغم سوء بعض من التقيت منهم، إلا أنني حين أسترجع رحلتي على الإنترنت أرى كم هو اختراع جميل لأنه جعلني أتآلف مع أصدقاء خففوا علي كثيرا من غضبي، وهونوا من سخطي، وكانوا لي ملجأ حانٍ من رياح الألم. أتذكر صديقتي “شيرين” التي لم تعد صديقتي الآن، الأيام الطويلة التي قضيناها سويا وهي تخفف عني وأنا أخفف عنها. كنا صغيرتين يغمرنا الجنون، وكانت هي أول من بُحت له بكل ما يضايقني دون أن أخجل أو أشعر أنني لا بد أن أضع حدودا مع كل شخص أتحدث إليه. كنت أتبادل معها الرسائل طوال اليوم، لكنها كانت أول من قطع حبال الود في العالم الواقعي. ورغم أنني ابتعدت تماما، إلا أنني لا أنسى كل وقت جميل قضيناه سويا في فضاءات الإنترنت.
أتذكر صديقتي تلك، التي فتحت لي بيتها عندما سافرت لأول مرة، وأتذكر الأخرى التي شجعتني طوال حياتي على السفر وتجربة الاستقلال لأول مرة، والتجلد لأن الحياة ليست سهلة دائما، وأقنعت والدتي بأهمية ما أفعل وأثرت في رأيها كثيرا. ولن أنسى ما حييت ذلك الرجل الذي يعني لي الكثير، الذي عرفته كأب وقارب أن يكون حبيبا. ورغم أن علاقاتنا في البدء كانت بعيدة جدا، إذ كان كل منا في بلد آخر وثقافة مختلفة، إلا أنه نصحني بصدق واهتم بكل ما أشعر، وإن كان ضجرا في تغريدة ساخطة أو في رسالة عابرة.
أحببت هؤلاء الموجودين والراحلين، وأحببت الأوقات الصادقة التي جمعتني بأصدقاء يشبهونني كثيرا، حتى وإن لم يكن طريقنا واحد لكن رؤيتنا للحياة واحدة. معهم شعرت أنني لست وحيدة في هذا العالم، وأن هناك أشخاص آخرين يمكنني أن أتحدث معهم دون أن أشعر بغرابة أفكاري، أو أتلقي سيل من الأحكام الأخلاقية على ما أفعل.
لا أتحدث عن أصدقائي، هؤلاء الذين يمكن أن تجدهم في أي مكان في حياتك، بل عن هؤلاء الذين لن تجدهم في أي مكان، عمن جمعتكم الأفكار وفرقت بينكم المسافات، عمن جعلوك تُدرك أن في هذا العالم أشخاص يشبهونك وقلوب آسفة لحزنك. كأن تحزن على موت شخص مثلي الجنس والعالم من حولك يلعنه، كأن تعيش إنسانيتك ويقسم لك واقعك أن ما تفكر فيه عيب وحرام.
إلى هؤلاء، الذي قد يتغيرون وقد يبتعدون، وقد تفرقنا شبكات الإنترنت مرة أخرى وتجمعنا بغيرهم، أحبكم، وأحب تآلف القلوب الذي نشأ فقط بفضل القدر أولا والتكنولوجيا ثانيا.
منكم أستمد قوتي وأنتم من دعمتموني، وأدين لكم بأشياء جميلة لا حصر لها. سواء من قابلتهم وقضيت معهم أوقاتا أكثر ألفة، أو من لم أقابلهم حتى الآن، سأظل أؤمن بأن الصداقة – وإن كانت إلكترونية – رباط مقدس، يخسر من يمحوها من حياته.