هناء صفوت
عن الإشارات والأشياء والأشباح (PDF)
في مناقشة مع إحدى صديقاتي، أبدت استيائها من النساء، اللاتي يذهبن للسباحة بملابسهن، بسبب الحجاب. أوضحت صديقتي أن هذا الفعل يدل على عدم احترامهن للرمز الذي يمثلنه، وأن المرأة التي ترتدي الحجاب تريد أن تشير لنا أنها عفيفة. كيف لها أن تسبح والملابس تلتصق بجسدها؟ فلماذا لا تتحلى بالرزانة، وتكف عن النفاق؟ فيجب علينا احترام أنفسنا، وألا نفعل أشياء قد تُفقدنا احترام الناس. ولكننا لسنا سلفيين بالطبع!
طوال ال٢٩ عامًا، من عمري، لم أفهم قط ما يقصده الآخرون بالاحترام.
وهنا فكرت في نقطة الخلاف المحوري، بيني وبين صديقتي. اختيارات المرأة، لا يمكنها أن تكون بسيطة، لا يمكن أن تكون هوائية، فهي، دائمًا، ترمز إلى شيء. ببساطة، المرأة لا يمكنها أن تفعل شيئًا بدوافع مباشرة. لا يمكن أن تسبح دون الإشارة لنا، للعالم أجمع، ولكل مار بجانبها، برموز، نفهم منها حالة أعضائها الجنسية، أو توجهاتها الدينية. فعندما تبتسم، لا يمكن أن تبتسم لأنها تذكرت نكتة. هي تبتسم، لكي يراها آخرون. لا يمكن أن تأتي دوافعها، من الداخل. فدوافع المرأة، تأتي من الخارج. تحدث فرانز فانون عن التشييء، وعن استحالة الوجود، بالمعنى الأنطولوجي، للرجل الأسود، وأن عليه أن “يكون عبر الآخرين.” نستطيع أن نقول أن نفس الشيء ينطبق على المرأة أيضا. فتلك الحالة لا تقلل من الاختيارات المتاحة لها فقط، ولكن تجعل الاختيارات المغايرة غير مرئية، أو غير مفهومة، فليس علينا فقط الهروب من تساؤلات المجتمع، من حولنا، وتفسيراته لـ ”إشاراتنا،” علينا، أيضًا، أن نواجه الإجابات الجاهزة، من الإجابات المتاحة، لتفسير أفعالنا، (المرأة العازب الكارهة للرجال، المثلية، المجنونة، العاهرة).
إحدى تلك الإجابات في الماضي كانت “الهستيريا،” والتي كانت تستخدم في المجتمعات الغربية. الكلمة تعني اضطرابًا عاطفيًا شديدًا بسبب تغيرات في مكان الرحم. وإن كان التشخيص استخدم منذ الأزل في المجتمعات الغربية، تحت ذلك المسمى، فتلك الممارسة لم تغب عن مجتمعنا، حتى إن كانت تحت مسميات أخرى. هناك إجماع عالمي universality في المفاهيم المضطهدة للمرأة، ولا يمكننا أن نفسره بالاستعمار فقط، فديناميكية القوة متشابهة؛ وبالتالي تتشابه أدوات الاضطهاد. تشير بعض الدراسات، (وإن كانت دراسات في أمريكا الشمالية، ولكن تجارب كل منا تؤكد لنا أنها تنطبق علينا) أن الأطباء لا يأخذون آلام النساء على محمل الجد، فيتأخرون في التشخيص أو في معالجة الآلام. ولم لا؟ فاجسادنا دائما تشير بإشارات محددة، وإن أشرنا إلى شيء مختلف –أننا أناس ولنا آلام حقيقية، لسنا قُصرًا، ونحن لا نبالغ– هنا يحدث تشويش، والمستمع لا يستطيع تمييز ما يقال له. نحن نتكلم، ولكن ما يصل لآذان الآخرين، دائما نفس الشئ، ذلك إن تركنا نتحدث من الأساس.
بالطبع هناك تقاطعات، فأنا كامرأة تنتمي لطبقة ميسورة، أستطيع أن أرمز لأكثر من حفنة الأشياء المتاحة أمام الآخرين، وأستطيع أن أكون شبحا، شخصًا خارج النظم. يحميني لون جلدي وطبقتي الاجتماعية من كوني شيئا ملموسًا ينطبق عليه منطق الأشياء. ولكن سرعان ما يتم تحويلي إلى جماد من جديد. ولا مفر في بعض الأحيان من أن تتسخ يداي بأفعال استنكرها؛ لطبقيتها، أو عنفها، ولكنها الأدوات الوحيدة المتاحة أمامي في مواجهة المتحرش في الشارع، والأستاذ في الجامعة، والزميل في العمل. أمارس العنف المضاد والاضطهاد المضاد، وأبالغ في ردة فعلي. فكل مواجهة تصبح عدوانية، أخرج منها مضطربة، وجسدي يرتعش. الأمر من أوله حتى آخره قبيح. حتى إن خرجت منها، ما قد نعتبره، منتصرة. لكني أستمر، لأنني تعلمت منذ حاول صبي في المدرسة أن يضربني ﻷول مرة. وحتى اليوم وأنا أقترب من ال٣٠. إن كنت الطرف الضعيف في المعادلة، فعليك البطش، عليك أن تخلق رادعًا ليس لمن تواجهه فقط، ولكن لكل الشهود. إنها معركة وجود.
حين ندرس تلك الحالة الرمزية، نرى أنها حالة تتعدى التشيؤ. الشئ يكون، يمكن أن يكون. هناك طاولة حيث لا أراها، وستظل موجودة، “ديمومة الشيء” (object permanence) تنطبق على الأشياء، ولا تنطبق على الرموز والإشارات. فالمرأة التي لا يهتم أحد بإشاراتها، بسبب تقدمها في السن مثلا، تصبح غير مرئية، لا فائدة منها. وإن كانت إشاراتها خارج نطاق الترددات المسموعة، فلا وجود لها. فالأشياء لها أيضا رغبات، أما الإشارات فلا رغبات لها. ماذا يعني أن نختبر العالم كأناس نتشكك في رغباتنا، وارتكازنا على الأرض؟ وحين نتعدى تلك الحالة، ونستطيع أن نصوغ رغباتنا، ونفهم أنفسنا، ماذا يعني أن نصطدم دائما بجدار نظرة الآخر في كل لحظة؟
تخيلت، كما تخيل فانون، اللحظة، عندما نرى أنفسنا بلا نظرة الآخر، ووجدت صعوبة في تصورها، وأدركت، أن صراعنا، كنساء وكويريين ومغايرين، وكخارجين عن النظام الأبوي، هو صراع وجود بالمعنى الحرفي. صراع على حقنا في ألا نشير إلى شئ. تلك الحالة لا وجود لها الآن، تحت النظم الأبوية، والاستعمارية. وقد يستحيل تحقيقها. لكننا نجد مثال الذكر، المغاير جنسيا، المنتمي للأغلبية. فله ما قد يوصف بأنه سجن أوسع. فبإمكان الرجال، أحيانا، أن يكونوا، حتى لو انحصر ذلك على الأدب والروايات. والآن، لا أتعجب، لماذا لم تصل المناقشة إلى أي شئ؟ فإن كنت أنا لا أستطيع تخيل تلك اللحظة، التي لن تأتي، والتي أستطيع فيها أن أكون فقط، فماذا عن صديقتي التي تؤمن بفائدة تلك الرموز والإشارات؟ فبدت أنها أشبه بتخيل الصمت التام، أو الفراغ التام، ولكنها لن تكون صمتا. سيكون هناك أصوات عالية تصيح برغباتها، بعد تحررها من الرمزية. لنتخيل بداية شيء آخر. حين نكسر أغلال الأبوية والاستعمارية. ونتخيل لحظة نتحرك فيها في الفضاء بخفة من تخلص من رمزيته وأثقل بالوجود.
من هنا قد نفهم، من أين تأتي ردود الفعل العنيفة والغاضبة، عندما نعيش كيفما شئنا. فهي نابعة من إحساس بالتهديد. من فقد مفتاح الشفرة لتلك الرموز، التي تبعث من أجسادنا، وبالتالي مواجهة الغير مفهوم، الذي، بالضرورة، لا يمكن السيطرة عليه، وأمتلاكه.
إذًا، لابد أن نخلق منطقًا جديدًا، فنجعل من الاختيارات، التي قيل لنا أنها تحدد من نحن، وتغير مجرى حياتنا، أدوات. أدوات نستخدمها كيفما شئنا. ليتحرر الحجاب من المنطق السلفي، الذي جعل منه رمزًا للعفة، أو للانتماء. ولتتحرر فروجنا، التي قيل لنا أنها تتغير بمجرد لمسها، أو استعمالنا لها، وأنه لا يوجد رجعة. فلتصبح كل تلك الأشياء والاختيارات، من نعاشر، أين نعيش، مع من، وكيف، أدواتنا. نخرج من حيز الجماد والأشباح، فنصبح نحن الفاعل. لا نقف مكاننا، نبعث الرسائل المشفرة، فنتحرك دائما، وتنبعث تموجات وأصداء، من قوة حركتنا. نحن خائفون. ولنا أسبابنا. ولكن علينا العمل. حتى تكون خطواتنا على الأرض مسموعة وواثقة، فلا يمكن إنكار وجودنا.