سارة قدري
حلم الجامعة الأمريكية
كياني كنسوية، لم يكن وليد اللحظة، بل كان نتاج رحلة مليئة بالتغيّرات النظرية، في المناهج الأكاديمية والتجارب الحياتية أيضا. بدايةً من كوني نموذجًا لبنت الطبقة المتوسطة، إبنة “رجل الأعمال،” الذي بنى نفسه من الصفر، ليؤمن لنفسه ولعائلته حياة مريحة ماليا في الثمانينات، في ذروة سياسات الانفتاح وازدهار ثقافة الاستيراد والتصدير. ولقد نشأت في هذه البيئة متأثرة بكل متطلباتها، وأصبحت مع الوقت، لا أبالي ولا أكترث، إلا لاحتياجاتي البرجوازية. ولكن تجربة التحرش في الطفولة، كانت أول مثال حقيقي للاضطهاد والقمع، الذي تعرضت له على أساس نوعي الاجتماعي. و منذ طفولتي، كانت هذه التجربة القاسية المؤلمة، وما زالت، من أصعب التجارب الإنسانية، التي مررت بها. حتى مراحل وعيي المجتمعي، تشكلت مع التحرش. في بادئ الأمر، عندما كنت أتعرض للتحرش اللفظي والجنسي في الشارع، كان رد فعلي اللحظي، هو تجاهل المتحرشين. ومع الوقت، تشكل وعيي، فأصبح هذا السلوك غير مقبول، ويستحق المحاربة، حتى أصبحت مناصرة لكل الحملات ضد التحرش. وعندها أدركت أن التحرش جريمة، ليس من المفترض التغاضي عنها.
ومع اقترابي من إنهاء المرحلة الثانوية بالنظام الأمريكي سنة ٢٠١٢، كنت في ذروة المراهقة الثورية السطحية، بدون أي وعي. وفي نفس الوقت، كانت أكبر أحلامي أن يتم قبولي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. وعندما وصلتني رسالة القبول، كانت من أفضل لحظات حياتي. هذه الحماسة كانت مبنية على أفكار نمطية سائدة عن الجامعة الأمريكية، لطالما ترجمت في مصطلحات مثل: “جامعة نضيفة،” “أحسن تعليم،” “ناس نضيفه،” “ولاد ناس.” كل هذه المصطلحات الطبقية، التي تدل على أن الطبقة الاجتماعية هي المعيار الأول والأهم لتجاوز أي اختبار اجتماعي.
الحماية والأمان الوهمي الذين توفرهما المجتمعات المسورة
عند التحاقي بالجامعة الأمريكية، كنت منبهرة بالمجتمع الجديد، متأثرة بكل الأفكار السائدة عن هذا المجتمع. كان هذا المجتمع المسور المنفصل، في بادئ الأمر، يمثل المساحة الآمنة، الحرة. ولكن مع تشكل ونضج وعيي، أتيحت لي الفرصة، للنظر بعمق، وتحليل هذا المجتمع، وما يمثله من زيف وطبقية وذكورية. تماما مثل المجتمع الأكبر. لأن النظام الأبوي الذكوري، بأشكاله المختلفة، موجود في كل جزء من حياتنا اليومية. وحش الأبوية، ليس مجرد وهم، لكنه ظاهر في كل محاور الحياة اليومية. وليست الإشكالية في المجتمع الذي نعيش فيه، والطبقة الاجتماعية وحسب، كما يعتقد البعض. ففي معظم الأوقات، تظهر صفات ومساوئ المجتمع الأبوي في الطبقات الإجتماعية المرفهة أيضَا. ومع الوقت أدركت أن امتيازاتي الاجتماعية والاقتصادية ليست كافية. حيث اتضح لي أن نوعي الاجتماعي يعرضني لممارسات ذكورية ومضايقات مختلفة أولها التحرش. وأن الامتيازات تتقاطع مع أوجه الاضطهاد. فكما أوضحت كيمبرلي كرينشو في ورقتها، “استكشاف الهامش: التقاطعية، سياسات الهوية والعنف ضد المرأة1 ،” ليست أوجه القهر والاضطهاد موحدة أو ثنائية فقط. فبالعكس، لمنظومة القهر أشكال متقاطعة متفاوتة ومختلفة. كانت طبقتي الاجتماعية تميزني عن الآخرين، ولكن نوعي الاجتماعي كان يذكرني دائمًا، أنني لست محمية ومحصنة من الاضطهاد. نوعي الاجتماعي كان يذكرني يوميًا، أن القهر والظلم والاضطهاد والعنصرية والطبقية والذكورية والعنف الممنهج، ليست كلمات ومصطلحات ثقيلة وصعبة وبعيدة، بل أن منظومة القهر شمولية. فكلنا بشكل أو بآخر، نتعرض للاضطهاد، حتى لو كنا أصحاب امتيازات.
مجتمع الجامعة الأمريكية نسخة مصغرة من المجتمع المصري.
“الأشكال دي كترت أوي في الجامعة.” كثيرًا ما نسمع هذه الجملة دون أن يتوقف عندها أحد. ثم نستكمل حوارنا الطبيعي. من السهل أن تستقبل هذا النوع من الجمل الطبقية المتداولة في محيط الطبقات المتوسطة، وفوق المتوسطة، والتي تعكس صورة الطبقية في هذا المجتمع. ولكن لو أخذنا هذه الجملة من منطلق تحليلي أكثر عمقًا، سنجدها تعكس لنا صورة مجتمعات أخرى موازية، مجتمعات صغيرة، منغلقة على نفسها. عالم بأسوار وأسيّجة حديدية تعزله عن “الآخر.” والآخر هنا هو كل شيء مختلف عن هوية هذا العالم الموازي. الهوية المصطنعة، التي يدّعون أنها نتاج الاقتداء بالفكر الغربي الأوروبي، الذي يمثل الحداثة والتقدمية. الآخر هو كل فقير يتم اتهامه بالتخلف والرجعية، ويتم نبذة من التواجد بتلك المجتمعات الموازية، بخصائصها، وهيكلها الاجتماعي، والاقتصادي الذي يوضح أبعاد الفجوة بينهم وبين مجتمعات الطبقات الأخرى. يقال أن الهدف من المجتمعات المسورة، هو الحماية والراحة والهدوء، ولكن هل فكرت للحظة إن كان وجود المجتمعات المسورة، هو فقط للحماية الجسدية أم للحماية أيضََا، من طبقات اجتماعية أخرى؟ الهروب! الهروب من الأوضاع السياسية. الهروب من الاقتصاد المتدهور. من الزحمة، من أطفال الشوارع، من أي مظهر غير مريح ومتعب.
من الخارج، تدّعي الجامعة الأمريكية أنها جامعة ليبرالية في الشرق الأوسط، تجمع بين تراث الشرق وحداثة الغرب. هذا متجلٍ في الطراز المعماري للجامعة، الذي يجمع بين التراث الإسلامي والحداثة. ولكن مع الاندماج في مجتمع الجامعة، والعمل فيه، اتضح لي أن هذه قشرة من الخارج فقط، وأن أفكارًا مثل الذكورية الأبوية راسخة بشكل كبير، بين بعض الأفراد المنتمين لهذا المجتمع، بطبيعة كونه جزءًا من مجتمع أبوي ذكوري أكبر.
حيادية الرجل الأبيض الغربي في البحث الأكاديمي
أتذكر دوما نصيحة أستاذي، أثناء دراستي الجامعية، بضرورة إبراز هويتنا، ورأينا الشخصي، في كتاباتنا، وعدم الانسياق خلف شعارات الحيادية. وكانت هذه النصيحة عكس ما تعلمته في السنوات الأربع، خلال دراستي الجامعية. وعلينا أولا أن نفهم، لماذا علينا، من الأساس، ألا نعكس صوتنا؟ لماذا يعتبر هذا “ًصحيحًا أكاديميا،” والآخر “ليس صحيحا.” تساؤلات كثيرة أفكر فيها عندما نذكر الكتابة.
تخطر عدة أسئلة على بالي، عندما أفكر في الكتابة، وقدرتنا على الكتابة من الأساس. هل كوني امرأة ينتج عنه كتابتي بشكل معين؟ شكل يتماشى مع دوري الاجتماعي. لا تنعكس الأدوار الاجتماعية، في حياتنا اليومية فقط، ولكنها تنعكس أيضا في تصوراتنا عن أنفسنا. تصوراتنا عن تنظيرنا وإحساسنا. علينا دائما أن نمحو أو نخفي مشاعرنا، كي لا نعزز الصور النمطية عن النساء؛ كونهن مرهفات الحس، ومشاعرهن فياضة. القمع في المشاركة، والبوح عن مشاعرنا، والأمانة، لتصدير صورة عكسية، هو أيضا مؤذٍ، وغير مفيد. وهل الكتابة لها أشكال معينة وأطر محددة؟ طوال دراستي الجامعية، كان هناك فصل واضح، بين الكتابة الشخصية والسياسية، وكأن السياسي ليست له علاقة بالشخصي، وكأن تجاربنا ليست لها أية قيمة، في التنظير والكتابة الأكاديمية البحتة. وهل هذا الفصل ضروري؟ وهل السياسي منفصل تماما عن تجاربنا الحياتية، التي تصنع السياق السياسي المحيط، من الأساس؟ لطالما كان من الصعب المشاركة بمشاعرنا وتجاربنا في الكتابة، لأني حتى لو كنت معتادة على الكتابة، تظل الكتابة الحقيقية، التي نعبر فيها عن هويتنا، من أصعب ما يكون، وليس العكس. وتجاربي كثيرة، ومليئة بالأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة. لكنني أعتقد أنني يجب أن أستطيع أن أعبر عنها وأشاركها مع نفسي أولا، ثم مع أناس آخرين. اتمنى، يوما ما، إن أستطيع هدم هذه البنى الاجتماعية التي تخص الكتابة في المطلق، وتجاربنا فيما يخصها، والكتابة عن قضايا المرأة، والنوع الاجتماعي، والبحث في التساؤلات التي ذكرتها.
أبوية الحراك السياسي والطلابي
خلال أربعة سنوات دراسية في الجامعة، كنت أشارك في النشاطات الطلابية، ومنها اتحاد الطلاب. وكنا ننظم أيضا، وقفات احتجاجية في الأحداث السياسية الفارقة. خلال عملي في اتحاد الطلاب -الذي كانت ترأسه امرأة- كنت من المسؤولين عن ملف اتحاد طلاب الجامعات الخاصة. وكنت أنا وزميلة لي ننظم الاجتماعات بين الاتحادات والحركات الطلابية، التي كان أغلب قياداتها ذكورًا. كانت من ضمن التحديات التي تواجهنا، أن نؤخذ بمحمل الجد من بعض الزملاء. كنا في بعض الأحيان نصرخ حتى يتم سماعنا. كان الأمر بالنسبة للوقفات الاحتجاجية أصعب، لأن أغلب الكيانات الطلابية بالجامعة، القادرة علي الحشد ليس أغلبها زملاء ذكور فقط، بل هي قائمة أيضا على الفكر الذكوري، الذي يؤمن أن الهتاف وقيادة وتنظيم الوقفات مهمة ذكور بحتة. ولكن الجدير بالذكر، أن نسبة مشاركة المرأة في المظاهرات مرتفعة في جامعتنا، سواء من الطالبات، أو العاملات، أو عضوات هيئة تدريس. وفي أغلب الوقفات تكون أكثر من الذكور. ولكن الموقف تغير في آخر موجتي احتجاج شهدتهما الجامعة: أثناء أحداث جمعة الأرض، بعد أن ألقي القبض علي أحد زملائنا في المطار، على خلفية مشاركته في التظاهرات حينها، وأخيرا عندما تم زيادة المصروفات، كنتيجة لتعويم الجنيه. وقفة التضامن مع زميلنا كانت منظمة من ثلاثة نساء -كنت إحداهن. ولكن أثناء التحضير للوقفة، كانت كل اقتراحاتنا تُرفض أو حتي لا تسمع، فقط لأننا اناث. شعرنا بالتهميش، وأننا غير مسموعات. شعرنا أننا غير موجودات. على الرغم من أن منا من هي أكثر دراية بطبيعة الحراك الطلابي بالجامعة. (يحضرني هنا بعض الوقفات التي كنت أنا وزميلتي نقودها وحدنا، مثل وقفة التضامن مع جوليو ريجيني). لم يكن هذا مجرد إحساس. بل الواقع أن اقتراحاتنا كانت تُرفض وتُهمل، بينما كانت تنفذ إذا اقترحها زملاؤنا الذكور. انعكس كل هذا على الوقفة. كانت هناك سيطرة ذكورية في كل شئ، بداية من تنظيم الهتاف وكلماته، وحتى قيادة الوقفة واتخاذ القرارات. كنا نقحم أنفسنا في مقـدمة الوقفة، وفي الهتاف، كي نقوم بدورنا في قيادة الوقفة، وكي نكون ممثلين. كان الأمر أكثر سوءًا في موجة الاحتجاجات الأخيرة، اعتراضا علي زيادة المصاريف. كان كل قياداتها ذكورًا. وكان هناك تهميش لدور المرأة في الحراك، بداية من نائبة رئيس الاتحاد وعضواته، وصولا لعضوات وقياديات الحركات الطلابية. يكفي القول أنه كان هناك هتاف يقول “واحد اثنين الرجالة فين؟” كانت زميلاتي في الحراك الطلابي يوقفن مثل هذا الهتاف. كما قامت إحدى الزميلات بعمل ألبوم لصور الفتيات المشاركات في الاعتصام، لتسليط الضوء على دور المرأة في الاعتصام. ولكن صوت الهتافات الذكورية كان أعلى منا. حتي إدارة الجامعة، المرؤوسة برئيس “أمريكي،” ومجلس أمناء من مختلف الثقافات والخلفيات، حين أرسلت رسائل إنذار (أو بمعنى أصح تهديد) للطلاب المشاركين في الاعتصام، لم ترسل لأي طالبة (ذكورية حتى في القمع). كان الأمر دائما “حربًا.” وكانت محاولة فرض سيطرة و قوة. لأن معادلة القوة دائما ليست في صفنا كنساء. دائما كان يتطلب منا العمل أكثر. لأن تطبيع الامتيازات الغير مكتسبة للرجال، ومقاومته، بل وحتى الاعتراف به، شئ مجهد. كان علينا أن نتعلم ونعي ونفهم، وعلينا أيضا أن نلفت نظر الرجال إلى أنهم أصحاب امتيازات غير مكتسبة. أصبح فرضا، أن أشرح لكل رجل، لماذا امتيازاته غير مكتسبة، ولماذا هناك تمييز وعنف ضد النساء، على أساس نوعهن الاجتماعي. وعلينا أن نفهم تقاطعية القمع وما الذي يعنيه.
خاتمه
إن الجامعة الأمريكية ليست إلا مثال لكل المجتمعات المسورة، سواء كان هذا المجتمع مجمعًا سكنيًا، أو مولًا تجاريًا، او ناديًا، أو فندقًا فارهًا. فقد أشعرني بريقها بالحماية والأمان، ولكن واقعها صدمني، بأنه لا يوجد أي إختلاف. أنا امرأة جسمي ووجودي مجنسين؛ في الشارع، في النادي، في الجامعة. بل أن هذه المجتمعات القائمة على الامتيازات الاجتماعية والاقتصادي لأبناء طبقة معينة، من السهل لها أن تتعايش ولا تنقض فكرة تفوق نوع اجتماعي على غيره. مجتمعات قائمة على فكرة الصواب الإجتماعي، في كل جوانبه الاقتصادية والاجتماعية. لذلك يجب أن يتقاطع النضال ضد الطبقية، والتنميط وفقا للطبقة الاجتماعية، مع النضال ضد الذكورية، والقمع وفقا للنوع الإجتماعي، لأن كليهما مبني على منظومة القهر والقمع ووصم الطرف الأضعف في المعادلة.
“لا يوجد نضال أحادي، لأننا نعيش حيوات ذوات قضايا متعددة” أودري لورد .
1 Crenshaw Kimberle, Mapping the Margins: Intersectionality, Identity Politics, and Violence against Women of Color, Stanford Law Review, Vol. 43, No. 6 (Jul., 1991) الترجمة العربية https://goo.gl/QqcQuw