كتابة : فرح العريضي
باحثة وكاتبة لبنانية وطالبة دكتوراه في الأدب المقارن من جامعة غولدسميثس في لندن. تتضمن اهتماماتها وكتاباتها الأكاديمية والإبداعية: المدينة، خاصة المدينة في زمن الحرب والصراعات الداخلية؛ المرأة والجسد الكويري في المدينة؛ العدالة الاجتماعية والمكاني؛ وتقنيات القوة وأدوات السيطرة الاجتماعية.
أختلي بنفسي – كما هي عادتي – بين أوراقي، في حانة صغيرة في أحد شوارع بيروت القديمة. أحاول أن أرسم بأحرف مزاجية أشكال الطاولات والكراسي وأحاديث الناس وأصوات الأطباق والفناجين وآثار الدخان المتصاعد من السجائر وغيوم القهوة. أردت اليوم مصادقة أفكاري، فلطالما واستني وحشتي وأوراقي أكثر من أي وجود بشري في حياتي.
تجلسين على طاولة مجاورة. تكتبين، تتأمّلين الدخان المتصاعد من سيجارتك، وكأنّك تضحكين خلسة بتلذّذ عارم. يترنّح على أصابعك لون أحمر. يتمرّغ بتمرّس كلّما اقتربت يدكِ من شفتيكِ. أسترق نظرات عابرة. أتأمّل بدوري بلاغة شفتيكِ عندما تنطق بالأحمر. أسترسل في تأمّلاتي وبحواراتٍ أتخيّلها تدور بيننا، ملِكَتَها حمرة لا تنكفئ. يجلس معي على الطاولة كتاب قديم لفوكو. ألتمّس اهتمامكِ عندما تبتسمين له بتواطؤ. لكن فوكو في تلك اللحظة يكسر اتفاقه السريّ معك عندما تعجزين عن إشعال سيجارتك ثانيةً. فتأتي حينها فرصتي. بشجاعة، لم أعترف قط أنّي أمتلكها، أعرض عليك ولّاعتي. تقتربين. تشكريني. تدنو يدك من ثغرك. يُلقى ضوء على تفاصيل وجهك. تنتبهين. تبتسمين بامتنان ولذة. لكنك لا تتحرّكين. أحاول ألا أبدو كطفلة صغيرة أمامكِ. أسيطر على دقّات قلبي ويأتي فوكو لنجدتنا نحن الاثنتين. تُبدين فضولاً باهتمامي بالفيلسوف الفرنسي. فتمرّ ثلاث ساعات برمشة عين. وتتخمّر أحاديثنا بقعر قنينة نبيذ تتبارى حمرتها وشفتيكِ. تشاركيني ما تكتبيه حالياً، فنغوص معاً في عالم متخيّل يبدو في حينه أكثر واقعيّة من العالم الذي انقطعنا عنه لساعات. فتمرّ ساعة أخرى. ثم ترحلين. “لنا لقاء قريب”، تقولين وتمضين.
أراقب رحيلك ببطء. أشعل بدوري سيجارة، وأبدأ بالانتظار.
تشبهكِ شوارع المدينة، فكلاكما تستحقان الانتظار – كلما مشيتُ خطوة، أو كتبتُ سطراً على أوراقٍ فقدت ترتيبها بعد لقائكِ. غدت كلماتي تنطلق بلا رقيب أو أديب. يمكنني القول إنني اليوم أكتب من دون حساب.
لطالما اتّهمني أبي بأنني أعيش في الأدب ومن خلاله، وبأنني لا أنتمي إلى العالم الواقعيّ، بل أبيت بين سطوري وصوري وشخصياتي وقصصي. فتصبح تلك واقعي، وأنعتق من العالم الحقيقي الملموس، أكتب ما لا أستطيع أن أعيشه. أو على الأقل، هذا ما كنت أحسبه. كنت أتلقّى تعليقاته بلذّة وسخرية لا أُبديهما. فمنذ صغري أنتظر تعليقات أبي التشخيصية. فقد كان يعتبر شعري بعيداً كل البعد عن الشعر، ونصوصي حائرةً، تتعدّى على حدود النثر وأشكاله. فأبي يحترم قواعد وقوالب وقوافي الأدب بصرامةِ مؤمنٍ، في حين أكفر أنا بها كلما أُتيحت لي الفرصة. لطالما استهواني تكسير الهياكل والأشكال التي تأسر المضمون الأدبي للنص النثري أو الشعري، وتعيق حركته وانبعاث صوره بسلاسة. اليوم أتأكّد كم كان أبي على خطأ. اليوم أكتشف بفعل لقائنا وغيابك وانتظاري أنني أستطيع أن أعيش حياتي كما أعيشها في الكتب والروايات، كما أحسّها بالشعر ومن خلاله، أو حتى كما أكتبها. اليوم أكتشف أني حرّة كلما أكتب، وأنني لا أستعيض عن الحياة عبر تحويلها إلى نصّ أدبي. بل العكس تماماً. فعندما تنطلق كلماتي كل صباح على صفحة بيضاء جديدة، أولد من جديد. أرتّب أفكارا عشوائية، ثم أبعثر غيرها بانتظام، وألملم ما خلّفته أحلام وكوابيس الليل الفائت. فاكتشف أنني أقترب أكثر من ذاتي، كلما أزيد سطراً أو بيتاً في دفتري الأسود الصغير.
اليوم أكتشف كم تشبهين مدينتي وقصائدي، كما يحلو لي أن أراكُنّ: ثائرات، حرّات، جميلات. فأنتظركِ.
أرتاحُ في الغياب. أستفيض في الانتظار وأستعيض عنكِ بالكتابة من خلالكِ، وأحياناً قليلة جداً باسمكِ، وأحياناً أقلّ بعد، عنكِ. أنتظرُ وأبحثُ عن البدايات لأعود إليكِ، لأجد طريقي إليكِ ثانية. لكني، ومن خلال التقرّب منكِ عبر فعل الكتابة هذا، أقترب من الراوية والكاتبة معاً. فتتداخل الأنا الأدبية بالعملية الإبداعية، وتصبح الاحتمالات المتخيلة حقيقة في الإفصاح والتجلّي. تتآمر بلاغتي عليّ. فأحوّل سكوني وصمتي – في الانتظار – إلى فواصل كلام، سرعان ما يُسرع قلمي إلى اختراقها وتمزيقها وتشريحها. فأجدنا في التفاصيل. رحلتي وترحالي لا عذاب فيهما، بل لذة البحث بين السطور والقوافي، والتغنّي بجماليات اللغة، وبلاغة الكلام والمعاني في عوالم افتراضية. أكتب لأشطب كل سطر وأبدأ من جديد. كل بداية اكتشاف لزاوية وصورة وانعكاس. كل جديد انقشاع لخبايا معانٍ وتفاصيل تكوين هويتي. فيأتي ترحالي رحلة التعرّف على ذاتي وكسر حواجز الصمت والسرية التي طالما خطّت أفكاري وقيّدتها تحت أسماء مستعارة وضمائر مستترة ولغة أجنبية، لن يفقهها من يجد دفاتري ومسودّاتي المخبّئة تحت سريري.
قُلتِ لي مرة كيف بدأتِ بالكتابة بعد الاستماع إليّ في أمسية شعرية. فتحمّست للكتابة بدورك. لكنك لم تكتبي لي يوماً. لم يُحزنني ذلك. بل العكس تماماً. فأنا لا أريد تحمّل عبء من تكتبين عنها أو إليها. لا أريد أن أتحوّل الى شخصية أدبية تسيطرين عليها كلما سيطرت هي بدورها على أفكارك ومشاعرك. أكتفي بكوني حافزاً وإلهاماً لشغف البدء بقصيدة جديدة، أو قصّة ما. فلا أطمح أن أكون بطلة رواية واحدة، أو ضحيّتها. لا أستطيع قبول كوني احتمالاً وليس أكثر، يتبدّد بضربة قلم، أو لطخة حبر. أرفض الكتابة عنك للأسباب عينها. ستكونين بذلك مجمعاً لشغفي في الكتابة وعشقي لبداية عوالم لا تشبه بعضها بشيء سوى بأنني أنا من ابتدعتها. فأتنقّل بينها كما يطيب لي. أغرق بالبدايات وأُعيد تأليفها وترتيب أحداثها، وتاريخها وتواريخها، كما تبدّلين أحمر شفاهك كل يوم أمام مرآتك. فأبدأ من جديد، كل صباح، وأدور حول نقطة البداية الأولى التي تشبهك بتجدّدها. وتشبه بذلك علاقتي بكِ. فتكونين كل مرة أراكِ فيها كلحظة التكوين الأولى: ثائرة، عابرة، عنيفة، لطيفة، حاضرة، غائبة، أبديّة التجدّد، لا تعيدين نفسك مرة. لحظة أنتظرها كما انتظرتك؛ كل صباح جديد. فكرة انطلقت من أول لقاء وتفرّعت احتمالاتها. هي أحمر الشفاه ولَيْلَى النبيذ ومٍسودات الشعر.