كتابة: سارة سالم1
كاتبة وباحثة نسوية مصرية- هولندية، حصلت على درجة الدكتوراة من معهد الدراسات الاجتماعية في هولندا في الاقتصاد السياسي الدولي مع نظرة خاصة على الثورة المصرية في 2011، تركز في كتاباتها ودراستها على المنظورات التاريخية والمؤسسية للاقتصاد السياسي، ودراسات ما بعد الكولونيالية، والنسوية.
ترجمة: ريبيكا صعب سعادة
النسوة والنسوية ومشروعية المشاعر (PDF)
وجدت نفسي في الآونة الأخيرة منشغلة بفكرة “المشاعر” بشكلٍ عام، وكيفية إكتساب بعض المشاعر صفة “المشروعية” دون سواها، والدور الذي يلعبه هذا التوصيف في عملية الرقابة الذاتية والعقاب الذاتي. يصعب علي التعبير عن طبيعة مشاعري حول تماهيي الذاتي بأنّني نسوية، بالإضافة إلى نظرة الآخرين إليّ على أساس هذا التماهي، غير أنّ قرائتي لكتابات سارة أحمد حول علم الظواهر (phenomenology) والنسوية ساعدتني بشكلٍ كبير. لفتتني بشكلٍ خاص فكرة الكيلدجوي (killjoy) أو النكد الدائم التي طرحتها سارة أحمد، الترجمة الحرفية لتعبير كيلدجوي هي “قاتل/ة البهجة”، وهو الشخص الذي يقوم بمنع الآخرين والأخريات من الإستمتاع بوقتهم/ن، “ينكّدن” عليهم/ن. وفقاً لسارة أحمد، يُنظر إلى النسويات على أنّهنّ نكديات، وهذا برأيي بيت القصيد: النسويات يمنعن الآخرين من الاستمتاع بوقتهم/ن، وبالتالي فالنسوية تُثير الامتعاض ويتمّ الإستهزاء بها والسخرية منها وحتّى التعامل معها بعنف.
ممّا لا شك فيه أنّ صفة النسوية لا تأتي على حاملها/حاملتها بالكثير من الشعبية أو الصداقات. يرتبط تعبير “نسوية” بحد ذاته بالكثير من الصفات السلبية، لدرجة أنّه بات من الصعب على الأفراد التماهي مع التعبير، حتّى ضمن بعض الدوائر “المثقّفة”. تتفاقم هذه المشكلة في مجتمعات معينة، كمصر على سبيل المثال، حيث يرتبط تعبير النسوية بدلالات إمبريالية، مع العلم أنّ هذه الدلالات، للأمانة، صحيحة. غير أنّ تركيزي هنا ليس على هذا النوع من الرفض، بل على رفض تعبير النسوية على أساس أنّه “راديكالي جداً” أو “حاقد”. يُنظر إلى النسويات على أنّهنّ كارهات للرجال، منزويات ضمن مجموعات نسائية حصرية، وتعشن في حالة من الغضب الدائم. تكمن المشكلة الأكبر في محاولات بعضنا الرد على هذه الإتهامات بحجة عدم جواز التعميم وأنّ هذا التوصيف لا ينطبق على كافة النسويات. هذا برأيي فخّ بحد ذاته. صحيح أنّ عدداً من النسويات يعتمد مقاربة حازمة مع الرجال، وصحيح أيضاً أنّ الأغلبية الأعظم من النسويات غاضبات (بدايةً مني أنا شخصياً)، غير أنّ عدم إعتناق النسوية الراديكالية – أنا أيضاً لا تستهويني هذه المدرسة الفكرية، ولكن لأسباب أخرى – لا يبرّر رفض مفهوم النسوية بحد ذاته.
والأغرب في ظاهرة “إتهام” النسويات بالنكد هذه، هو أنّ عبء الإثبات يقع على النسويات اللواتي تجاهدن لإثبات أنّهنّ لسن غاضبات، ولسن مفرطات الحساسية، وأنّهن لسن تحت تأثير الهرمونات (حائضات ). تقع علينا – كنساء وفتيات – مسؤولية إظهار دماثة خلقنا وقدرتنا على الفرح والتأكيد على أنّنا لن ننكّد على أحد، وبالتالي أن نثبت أن لا داعي للقلق منّا، فنحن لن نسبب لك أي إزعاج حتّى لو كان لدينا آراء واضحة حول الجندر. وهكذا ينتقل محور الحوار من النظام الأبوي، وأسباب غضب النساء، إلى النسويات أنفسهنّ ودورهن في تفادي الصدام.
من منّا لا تجد نفسها (كل يوم) في موقف تشهد فيه تعليق ذكوري أو فعل ذكوري فتشير إليه؟ قد تحاولين الإشارة إلى الموضوع بلطف أو من باب المزاح خشية من التنكيد وإفساد المزاج العام *أكثر من اللازم*. غير أنّ المزاج يفسد بالرغم من ذلك، يتململ الجميع ويقولون بشكلٍ مباشر أو غير مباشر ما معناه “عدنا إلى هذا المنوال القديم”. نرى الحوار برمّته ينتقل من المشكلة المطروحة إلى الشخص الذي يقوم بطرحها.
وهذا ما يذهلني، أن يثير التشكيك بالآداء المهيمن قدراً من التحفظ يستدعي هجوماً على هذا التشكيك ومرضنته. تقابل أي محاولة للتشكيك بالذكورة الذكورية أو الأنوثة الذكورية بالرفض الشديد، مما يعني أنّ النتيجة الوحيدة المحققة على المدى البعيد هي إستنزاف وإرهاق الشخص الذي يقوم بهذا النوع من التشكيك. ومن هنا نصل إلى الفكرة الأساسية التي افتتحت بها، أي أنّ ذلك يؤدي في نهاية المطاف إلى الرقابة الذاتية. تجدر الإشارة هنا إلى أنّني لا أتحدث عن الرقابة الذاتية على المستوى السطحي المتمثّل بالقول “لا، لن أقول هذه الجملة لأنّ ردّ فعل فلان سيكون بتلك الطريقة”. الموضوع أعمق من ذلك ويتم عبر مساءلتنا لموقعتنا وقناعاتنا، والأخطر من ذلك مساءلتنا لمشروعية مشاعرنا في هذه المواقف، أنّ يتسلّل إلينا الشك بأن حساسيتنا مفرطة أو رد فعلنا مفرط أو نابع من غضب أو تأثير الهرمونات. يؤسفني القول أنّ هذه الأسئلة باتت تسحوذ على حيز واسع من الحوارات مع صديقاتي النسويات.
غير أنّ هذه الأسئلة تعيدنا إلى نقطة البداية، نقطة قوة الذكورية أنّها تخص النساء بالعواطف والرجال بالمنطق. سواء بالقول أنهنّ يفرطن بالغضب أو السعادة أو النغش أو الإنفعالية، يترائ لنا أنّ النساء “تشعرن” باستمرار، وأكثر من اللازم. وقد كان لهذه النظرة إنعكاسات جلية على النسوية بشكل خاص، فالنسويات – وأغلبيتهنّ نساء – تفرطن بالشعور وتبادرن إلى الرد أكثر من اللازم، في إطار مواقف عادية ومنطقية لا تستلزم رد فعل عاطفي لهذه الدرجة.
بالنهاية، تساهم كل هذه العوامل في حالة من الإستفزاز وعدم الإستقرار. من جهة، نرى الذكورة المهيمنة في كل مكان، ونرى كيفية تجسّد الذكورية حتّى في دوائر الرجال المتماهين مع الفكر النسوي – وهذا بحد ذاته غريب، وحتى مؤلم. لكن من جهة أخرى، فإنّ تبعات التشكيك بالذكورية وخيمة لدرجة تدفعك للتشكيك بقيمة مشاعرك. لكن لا شكّ أنّ مشاعرك حقيقية. هل كان هذا الشعور ضرورياً؟ ماذا لو كان مشاعرك نتيجة لرد فعل مبالغ به؟ لعلّك في تلك المرحلة الحساسة من الشهر؟ أو لعلّك ترين الذكورية في كلّ شيء لأنك نسوية فكل النسويات تفكّر بهذه الطريقة؟ لعلّ الفعل الذي أزعجك لم يكون مقصوداً؟ لكن، يبقي من الواضح أنك شعرت بشيء محدد.
حالة الإستفزاز!
دائماً ما تجد المرأة أنّ سواها يملي عليها مشاعرها ويشكك في مشروعية مشاعرها. من الأحداث التي لن أنساها حوار جرى بين وبين إمرأة كنت قد تعرّفت عليها للتو. كنت أحكي لها عن قصتي مع رجل معيّن وأصف فيها الغضب الذي سببه فيّ ذلك الموقف، وكيف أنّني مدركة أنّه لا يجوز لي أن أغضب مما حدث. إكتفت محدثتي بالقول: “ماشي. لكنّك غاضبة. لا يهم ما يجوز أو لا يجوز أن تشعري به.” تفاجأت من ثورية هذا المنظور.
لا أريد الإيحاء أن المسائلة الذاتية شيء سيء، على العكس، نحن البشر – نساء ورجال – قد نبالغ في ردود أفعالنا، وقد تثير بعض المسائل حساسيتنا، وقد بجعلنا الجوع عاطفيين/ات. لكن، وعلى حد علمي، فإن إحدى الهويتين الجندريتين مقولبة إجتماعياً للتشكيك بمشاعرها دون الأخرى. وتبقى نتيجة ذلك الوحيدة هي الهوى الواسعة بين ما نحس به وبين ما يجب الإحساس به. وأنا لا أرى في ذلك سوى نوع من العقاب الذاتي.
1 Sara Salem, Neo-colonialism and its Discontents Blog, https://neocolonialthoughts.wordpress.com