يسرا سلطان
ترجمة: تامر موافي
عن التجمع كممارسة نسوية
التحقت منذ فبراير 2014 بمجموعة من النساء، (عرفت بعضهن حينها ولم أعرف البعض اﻵخر، ولكنهن جميعا أصبحن صديقات مقربات)، في تجمع أسبوعي امتد لثلاث وأحيانا خمس ساعات. ذلك التجمع الذي أسميناه “حلقة النساء المقدسة،” تكوَّن في النهاية من مجموعة أساسية من حوالي 15 امرأة. حضر في أي اجتماع 9 نساء في المتوسط. وطوال عام ونصف التقينا أسبوعيا، وجلسنا في حلقة. بدأت الحلقة عندما مررت الفكرة لصديقتي المقربة، في وقتٍ صارعتُ فيه اكتئابا مرضيا، وشعرت طوال خمسة أعوام بحاجة ماسة إلى جماعة أنتمي إليها، فراغ حيث يمكنني تجريب التعبير، مكان للقبول غير المشروط يتجاربي المتناقضة في الحياة، التي كانت مظلمة بشدة، وأحيانا مفعمة بالفرح أيضا. وكانت الصورة التي فرضت نفسها بسهولة على عقلي، هي لمكان من النساء، على شكل حلقة، مؤسس على الثقة بقدرتنا معا، وقدرة كل منا، على إيجاد معنى لحياتنا، يجاوز مشهد القاهرة بعد ثلاثة أعوام من بداية الثورة، الوحشي أحيانا، والمنكر للحياة دائما، مكان مؤَسس على اعتناق تجاربنا وأولوياتنا كنساء.
كانت الحياة بالنسبة لي وللنساء اﻷخريات في الحلقة النامية، ممتلئة بالخبرات المتناقضة عن الفراغات القاصرة على النساء. بين ذكريات فراغات النساء المؤلمة، كمواقع مبطنة بأحكام الأداء الجنوسي المُقيِد، والنميمة المعادية للنساء، وجدنا أن لنا أيضا ذكريات لفراغات النساء، كساحات لتبادل الخبرة والحكي، والتضامن العابر للطبقة، والتضامن التكاملي بين النساء؛ في عائلاتنا، في بيئات العمل المهني، والدوائر الاجتماعية. آمنت مجموعة تأسيسية من 12 عضوة، بالقيمة الكامنة لهذه الممارسة، بما يكفي ﻷن يخصصن وقتا في حياة كل منهن المزدحمة، لحضور الحلقة. وما تكشَّف عبر 18 شهرا تالية (ويستمر في ذلك اﻵن بمعدل أقل) ظهر أنه تجرية مشكِّلة للعالم، مثرية بتفرد، ممكِّنة ومحوِّلة، لكثيرات منا.
أصبحت خبرة “التحلق”، كما أسميناها، نقطة تحول في حياتي، حوّلت الطريقة التي انتسبت بها إلى نفسي، وإلى النساء اﻷخريات. فقد سمحت لي بأن أجد قيمة لكلٍ من وقت التواصل غير المنتج (بالمعنى النفعي)، ولبيئة مشاعري اليومية، وهي قيمة تجسدت مع تداخل غاياتنا أحيانا في تباينات جميلة ومتعارضة. ومع ذلك، فإنني إذ جلست ﻷكتب هذا المقال صارعت شكا مستبطنا في جدوى تجربتنا: فهل كانت ببساطة ممارسة نخبوية متمايزة؟ هل كانت “مهمة” بحق – هل وصلت العالم الفسيح باﻷعمق في ذواتنا؟ وهل هي تستحق حتى الكتابة عنها؟ وأدعي، بعد كثير من التأمل، أنها بالفعل ممارسة نخبوية، كانت ولا تزال، في الوقت ذاته، مهمة ومثيرة للاهتمام، على كل من المستويين الشخصي والاجتماعي، وأنها تستحق مشاركتها مع العالم إلى حد بعيد. وهنا أطرح أنها أيضا كانت فعلا سياسيا لعمل ونضال غير منظورين ينحوان إلى خلق عالم داعم للمرأة من خلال ما أصفه كممارسة فراغية نسوية متجسدة.
في هذا المقال، آمل في أن أتأمل عبر تجربتنا في خلق هذا الفراغ اﻵمن للنساء، المتفرد رغم محدوديته، وذلك من منظور نسوي ومن خلال مقاربة ألهمتها نظرية الفراغ والعمران النقدية1 عبر التأمل في سلسلة من اﻷسئلة. ما الذي يعنيه بالنسبة لمجموعة من النساء المصريات من الطبقتين المتوسطة والمتوسطة العليا (في اﻷغلب)، تتراوح أعمارهن بين 23 و30، متضمنات في بنى كل من التهميش والامتياز، أن ينخرطن في هذه الممارسة للتجمع في إطار للإناث وحدهن؟ ما الذي يجعل من هذه تجربة نسوية؟ من أين تنبع هذه الحاجة إلى فراغات آمنة قاصرة على النساء؟ وهل يمكن لفراغ مؤقت إقصائي للغاية (للرجال، وللطبقات الاجتماعية والاقتصادية اﻷخرى، إلخ) أن يؤخذ على محمل الجد كممارسة نسوية أو كفعل له معنى وجدوى سياسيين؟
عن التجمع وخلق الفراغ
كانت الطقوس والقواعد التي خلقناها كما يلي: جلسنا دائما في تشكيل حلقي، على اﻷرض عادة للشعور بالاستقرار. وأحضرنا معنا دائما طعاما ومشروبات كانت مغذية وتحترم النظام الغذائي لكل واحدة منا. كل تفصيل كان متقنا عن عمد. وتناوينا استضافة الحلقة في بيوتنا وبدأنا في تطوير حس بكيف نخلق جماليا، محيطا ماديا كان ميسرا لبناء الثقة والتأمل. فبدأنا نفهم قدرتنا اﻹبداعية على خلق فراغ عمدا وعلى تحمل مسؤولية أثره على كل واحدة منا.
بدأنا حلقاتنا دائما بدقائق قليلة من الهدوء. فـأحيانا كنا نتأمل في هدوء وفي أحيان أخرى قد نغني أغنية ما بصوت هادئ، بل إننا في إحدى المرات رقصنا دون صخب. تطوعت إحدانا في كل أسبوع لتوجيه الحلقة بموضوع للمناقشة، نص أدبي أو نشاط من اختيارها. وفي مركز حلقتنا، عادة مع الشموع، البخور، وأعمال فنية جميلة، كان ثمة غرض يؤشر للمتحدث. فكان مفهوما أنه عندما تمسك إمرأة بغرض المتحدث، يكون دور كل إمرأة أخرى أن تنصت بإمعان، باقية في مكانها، وتهتم باحترام بأي ما كان لدى المتحدثة لتقوله. فلا تعليقات تطرح حول حياة وكلمات النساء اﻷخريات ولا نصيحة تعطى دون طلب، ولا مشاركة لخبرة شخصية، كان مرحبا بها مالم تطلب المتحدثة التعقيب على حديثها صراحة. وكانت الحكمة من ذلك أن تجربة كل إمرأة، وكل لحظة حاولت فيها التعبير عن هذه التجربة، كانت ذات قيمة ومعنى في حد ذاتها. وقد استحقت إفساح مكان لها، والعناية بها، وأن تُسمع وفق شروطها. هذه كانت القواعد: ما قيل في الحلقة، يبقى في الحلقة، وأن هذه الحلقة هي فراغ خال من الأحكام.
وكان من المفهوم أيضا أن الحلقة لم تكن ممارسة لتطوير الذات. فلن نكن هناك لتحسين أنفسنا أو لجعلها “أفضل” بأي شكل. فهذا أيضا كان شكلا من أشكال العنف التي سأمناها. كانت الحلقة مكانا للقبول والفضول/ ولممارسة كوننا مع أنفسنا ومع بعضنا البعض كما نحن بالضبط. وفي عملية تعرفنا على أنفسنا في كل أخرى وفي عملية الالتقاء باختلافنا وغيريتنا بالنسبة لبعضنا البعض، وتعلم احترامها، استعدنا أيضا قدرتنا على امتلاك حياتنا وخبراتنا وأمكننا أن نخرج للضوء ونحتوي برقة كثيرا من الشعور بالعار، الحزن، والغضب. وشكل كل اجتماعاتنا ومناقشاتنا، سواء صراحة أو ضمنا، سؤال مركزي حول ما تعنيه سكنى جسد وهوية أنثويين في عالم أبوي.
لقد قيل لنا طوال حياتنا أن تجمع النساء لغير خدمة “المصلحة العليا” هو أمر تافه وبائس ومثير للشك وهو تمضية لأوقات الفراغ فحسب، ومن ثم كان من المريح أن نسمع أصواتنا يتردد صداها في بعضنا البعض: هذه (الحياة) صعبة، هذا (التعبير، التفكر، الصمت) مهم، خبرتك ذات قيمة. وأحيانا قد تأتي إحدانا إلى الحلقة متعبة، أو حزينة، أو محبطة بشكل خاص، بعد سماع واحدة من الروايات الكثيرة، فوق الاحتمال، للتعدي الجنسي، أو بعد المرور بتجارب الاستهزاء في مكان العمل، أو تعاني شكا شخصيا بنفسها، أو جلدا للذات – وهو ما قد يكون اﻷكثر خبثا بين التعديات العديدة المستمرة لعالم بعينه. فكان يتاح لها أن ترتاح، ويسمح لها بأن تتمدد، وتأكل، وتنام لبرهة وتعتني بنفسها، أو فقط أن تجلس في هدوء في حلقتنا، مستقبلة ما ترغب به دون إلزام لها بالتحدث أو المشاركة. فالقاعدة كانت أننا سنجعل الحلقة تعمل لصالحنا وأننا سنتحمل مسؤوليات متساوية نحو خلق وصيانة حيويتها وقدرتها الشفائية.
عن الحاجة إلى فراغ آمن
لقد تبينا أن خبرات الضعف المستكشفة للذات والكاشفة هذه كانت في الغالب ممكنة فقط في الفراغات القاصرة على النساء، والتي جُعلت آمنة بحصريتها ومبادئها في المسؤولية الجماعية تجاه خلق الفراغ. وكان هذا ﻷن قلب خبرتنا المشتركة قد نما في أجساد أنثوية في عالم أبوي عنيف، حيث يتم في الغالب استبطان العنف ضد الجسد والنفس. لقد احتجنا إلى هذا الفراغ ﻷن حياتنا في اﻷغلب قد ملأتها الصراعات والعنف تجاه كينوناتنا كنساء. وﻷنه طوال ثلاثة أعوام جرفتنا أحداث الثورة السياسية ولم تتح لنا فرصة أن نجلس ونتعامل مع كل الألم والحكمة والنمو الذين أتوا من الخبرة الخاصة بأن يعاد تهميشنا كنساء في تجربة ثورية. فكان الحائل الوحيد دون التورط في بنى السلطة المعادية لكينونتنا كنساء، هو خلق فراغ حصري. وكانت تلك هي الاستراحة الوحيدة من أن نعامل من قبل قوى أبوية خارجية، والتي أتاحت لنا أن نكشف ونتواصل مع الدواخل الهشة لخبراتنا ونفحص عنفنا المستبطن ضد أنفسنا وبعضنا البعض في ضوء متعاطف.
في كل مرة التقينا فيها كان علينا أن نتفاوض مع اﻷهل، اﻷزواج أو رفاق السكن حتى يتاح لنا الوصول إلى فراغ خالٍ حرفيا، يمكننا أن نعقد فيه حلقتنا القاصرة على النساء. وأثار هذا في حد ذاته كثيرا من النقاشات المثيرة للاهتمام والمرهقة مع أصدقائنا وعائلاتنا حول قيمة ما كنا نقوم به. ومن المحتمل أن هذا أيضا كان واحدا من مصادر شكي في أهمية وجدوي هذه التجربة عندما فكرت في مشاركتها مع اﻵخرين. كان اﻵباء والأمهات والأزواج واﻷصدقاء الحميمين والصحاب دائما فضوليين، وأحيانا متحيرين ودائما متشككين مزاحا (أو دون مزاح). فماذا تفعل مجموعة من النساء الشابات عندما تجتمعن عمدا بهذه الطريقة؟ – سئلنا هذا السؤال مباشرة أو ضمنا. هل يجأرن بمدى كراهيتهن للرجال؟ هل يتبادلن النميمة حول النساء اﻷخريات؟ أم هل تتطور الحلقات إلى حفلات جنس مثلي جماعي؟ سئلنا هذا السؤال بخفة (وبقليل من الجدية أيضا). وقد أجبنا بالنفي أو رفضنا إرضاء الأسئلة اﻷكثر وقاحة بأية إجابات، وحاولنا غالبا أن نوضح ما كنا نفعله. ووردت كلمات مثل شفاء، أختية، تضامن، فراغ آمن، وتمكين. (قيل لنا “هي إذًا مجموعة علاج جماعي،” وحاولنا أن نجيب: “ربما، ولكن لا تحول إرادتنا إلى موضوع لعلم النفس.”) وغير هذه من الكلمات التي أحب بعضنا استخدامه أزعج الناس: مقدس، أنثوي غامض، إلهة (فسخروا “آه، إذًا أنتن اﻵن جزء من جماعة سرية للساحرات؟”) وليس اﻷمر أننا إنتكسنا إلى أسطورية تعليمية حول اﻷنثوية ولكن كثيرات منا كن ﻷول مرة قادرات على أن يعبرن عن خبراتنا كنساء، كنسويات تمردن على التصنيفات الجنوسية وطرق التفاعل الاجتماعي التقليدية، وكذا أن يعترفن بالجمال والقوة التي وجدناها ونحن نستكشف الشخصيات واﻷدوار الأنثوية النموذجية – دون الخوف من أن يستخدم تقديرنا لما هو أنثوي تقليديا لحصرنا في تصنيفات معيارية قمعية. ومن ثم لعبنا بالكلمات وتحدثنا متمردات عن الشعوذة النسوية.
اﻷسئلة المستمرة حول سبب حاجتنا لفراغ منظم حصرا للنساء، كانت بشكل ما، هي اﻹجابة اﻷمثل عن سبب شعورنا بالحاجة إلى خلق هذا الفراغ: لقد كنا أخيرا قادرات على أن نستمتع بفراغ كنا فيه آمنات من المطالبة المستمرة بأن نقدم إيضاحات ﻷمور كانت واضحة بشكل ساذج لنا كنساء، وحيث كنا آمنات من الاضطرار إلى أداء الجهد العاطفي والعقلي القسري لتفسير نسائيتنا، نسويتنا، جنسانيتنا، لهؤلاء الذين تفهمونا على أننا “آخر” ومن ثم تطلبوا تفسيرات منا عن ذواتنا. كان هذا الفراغ إذًا هو حيث كنا آمنات في أن نوجه اهتمامنا إلى أسئلتنا الخاصة بنا، حول من نكون، وكيف يمكننا أن نشتبك مع الألم والحب وخلق المعنى في حياتنا.
عن التحلق كممارسة فراغية نسوية متجسدة
في مناح عدة، اقتطعنا بدأب فراغا لأنفسنا من أعباء حياتنا كأسيرات لقمع بنيوي: كنساء، ككويريات، وكمستهلكات سلبيات غالبا، وكعاملات محملات باﻷعباء في منظومة رأسمالية، وكمنبوذات ثقافيا ﻹيماننا بالتحرر من قواعد الحنوسة والخطابات القمعية التي تعظ عن الجنس، وعن أجسادنا كمستودعات لشرف الذكر والوطن، وكذوات محتلة نعيش في عالم لن نكون فيه يوما “أصيلات” ولا نحن يوما سنكون “غربيات/بيض” بالقدر الكافي – من بين أمور أخرى كثيرة. كان هذا في حد ذاته فعلا سياسيا، اختيارا ﻷين وكيف نوظف طاقاتنا وقوتنا، وﻷي نوع من التجارب أردنا أن نوجه خبرتنا.
كحلقة، لم نسمي أنفسنا نسويات بشكل صريح في أي يوم، رغم أن معظمنا قد عرفن أنفسهن بشكل فردي كنسويات. ومع ذلك فإن الفراغ واﻹبقاع الذين كنا قادرات على خلقهما والحفاظ عليهما، وممارسات الانتساب والانصات إلى بعضنا البعض، وبث الثقة في بعضنا البعض، التي أديناها، هي تجسيدات لما تعتقد كثيرات منا أنها اﻷسس لرؤية للعالم هي نسوية وداعمة للنساء. فالأمر الذي اتفقت عليه جميع عضوات الحلقة هو أن ممارسة “التحلق” قد أمدنا بالقوة وغير الطريقة التي ننتسب بها إلى أنفسنا وإلى حياتنا. وشخصيا، فإن أكثر خبرات التحلق قدرة على التحويل وأكثرها سياسية بالنسبة لي يمكن وصفها بأفضل شكل ممكن من خلال ممارسة “الشهادة”. فقد تجمعنا ﻷجل أن نكون عن عمد شهودا على أنفسنا وعلي بعضنا البعض ولنؤكد ونفعِّل إيماننا بأن فعل الشهادة في ذاته جدير بوقتنا واهتمامنا. في عالم بدا فيه الشك وغياب اليقين سائدين، أكد فعل الشهادة على طريقة بعينها اختبرنا بها مرور الوقت، جدوى وحقيقية خبراتنا الفردية وتجمعنا ككل بصفتنا في آن واحد شهودا ومشهود عليهم.
إذا كان الشخصي سياسيا، وإذا كانت السياسة تدور حول التغيير وصراع الهويات والمعنى في العالم، وإذا كان السؤال عمن يمكنه خلق الفراغات، ومن يمكن ضمه إليها هو سؤال سياسي، فيمكننا إذًا أن ننظر إلى حلقتنا النسائية -والتجارب المشابهة- كأفعال سياسية لحيازة الفراغ والمطالبة بسيادتنا على أجسادنا، وقتنا، ومحيطنا الفراغي، وسلطة تقرير ما له قيمة في حياتنا. ففي كل مرة قاتلنا في مواجهة جداول العمل، الالتزامات العائلية، وهمجية حركة المرور بالقاهرة (وفي مواجهة تكاسلنا عن التفكير في حياتنا، والإحساس بمشاعرنا والتعبير عنها، والإنصات بقلب منفتح وصبور لبعضنا البعض) في سبيل أن نتجمع ونجلس في حلقة، نكون قد صوتنا لصالح سيادتنا على حياتنا. وفي كل مرة خلقنا عمدا محيطا فراغيا جميلا والتزمنا بدعم بعضنا البعض، كنا نأخذ خطوة صغيرة في طريق بناء رؤية بديلة لبيئتنا الاجتماعية ولما يمكن أن تبدو عليه حياتنا إذا ما كان لنا الحرية الكاملة في أن نكون أنفسنا ونخلق عالمنا.
بهذا المعنى استكشفت ممارستنا ما بإمكان الذات الأنثى/النسوية فعله وخلقه. فبدلا من أن نحاول تفكيك نظم القمع الهرمية التي شكلت بنية حياتنا (وهي قضية ذات قيمة في حد ذاتها)، خلقنا بصفة متكررة وجسدنا فراغات فيها يتم تعليق هذه التباينات والإقصاءات، مستكشفين نوع العالم الذي كان بإمكاننا خلقه في هذا الواقع البديل. وعندما استخدمنا كلمات مثل “سحر” لنصف تجربتنا في حلقة أسبوع ما (وهو ما أزعجت رومانسيته وخياليته صديقاتنا النسويات العقلانيات وأصدقائنا الذكور الأبويين ﻷنه فُهم على أنه غير سياسي وبلا معنى وغامض)، فإنني أعتقد أن ذلك كان يشير إلى قوة الخيال والطاقة التي من خلالها خلقنا الفراغ، الذي بدا وكأنه بطريقة أو بأخرى يخلخل الحالات الطبيعية “للحقيقة”.
لم يكن ثمة صندوق اجتماعي سهل، أو آخر اقتصادي منطقي، نضع به ما كنا نقوم به، فلم نكن منخرطات في عملية استهلاك أو إنتاج رأسماليين، ولا كنا منخرطات في أخلاقية نيو ليبرالية لتحسين الذات، ولا نحن مارسنا نشاطات تجمع وحكي نسائية تقليدية. إن الخلق المبدع للفراغ هو ما أقترح هنا أنه جعل من الحلقة موقعا للسياسة ﻷنه كان موقعا لتمكيننا كنساء. يرفض بعض دارسو نظرية الفراغ النقدية الذين يركزون على المادية، رؤية ذوات وموضوعات موجودة مسبقا وبدلا من ذلك ينظرون إلى الفعاليات الفراغية كلحظات من التكوين المشترك للإرادة الفاعلة2 ومن ثم فقد كان تجمعنا لخلق فراغ هو في حد ذاته ما جعل منا ذوات لها إرادة فاعلة في هذه اللحظة. وكان تفعيلنا لفراغ الحلقة على وجه التحديد هو ما خلق القوة في هذا الزمان والمكان 3.
إن الفراغ هو موقع للمواجهة والسياسة بقدر ما إن التاريخ/الزمن موقع لهما. وهو أمر ذو دلالة أننا قد خلقنا في حلقتنا عالما له علامات مادية ورمزية: كأنماط الجلوس الفراغية، وطقوس اﻹيماءات الجسدية والصمت، والعناصر المادية التي أصبحت تدل على نشاطات ومواقف سلوكية مختلفة، ومفردات للحديث خاصة بالمنخرطين وحدهم 4.
الطريقة التي نُظمت بها الأغراض المختلفة حول أجسادنا، والطريقة التي بدأنا بها مع الوقت نخلق لغتنا المشتركة وإحالاتنا الخاصة بنا، وحقيقة أن هذا خلق لدينا القدرة على إعادة تخيل حياتنا خارج حدود الحلقة – هذا كله يُظهر أن فراغ الحلقة كان فراغا للإرادة الفاعلة المُكونة بشكل جماعي. ففي خلق هذا الفراغ اﻷسبوعي اﻵمن، جسدنا وفعّلنا قيما نسوية، للمساواة، واحترام الاختلاف، والتحرر من القمع المؤسس على جنوستنا وهوياتنا الجنسية، وحرية أن نتخيل ونخلق كوننا الخاص وأن نمارس بناء نوع من المجتمعات هو ما نرغب في العيش فيه – مجتمعات يمكن فيها الاعتراف بكل من اختلافاتنا وصراعاتنا المشتركة. وفي حين أن كل منا قد شعرت بأن الحلقة منحتها القوة، فإن مصدر القوة كان الحلقة ككل والفراغ الذي اجتمعت فيه. فإلى هذا الفراغ ما زلت أعود عندما أحتاج إلى الوضوح، حس الرفقة، والتذكير بإمكانيات القوى الخاصة بي والتي يمكن فقط أن يمدني بها، حلقة من النساء اللائي تعلمن صنع فراغات مقدسة يشهدن فيها على أنفسهن وعلى بعضهن البعض.
1 Brenner, Neil. “What Is Critical Urban Theory?” City 13, no. 2-3 (2009): 198-207.
2 تري النظرية الفراغية النقدية الفراغ لا على أنه شيء وإنما على أنه شبكة كثيفة وديناميكية لعناصر مادية ورمزية منتجة لذاتية من نوع جديد. لهذا الفهم للفراغ كتفعيل وتجميع لا كشيء ثابت، أنظر Massey, Doreen. For Space. Thousand Oaks: Sage, 2005.
3 أوضحت منظرة نسوية للفراغ ذلك كما يلي: “إن اﻹرادة الفاعلة هي مسألة فعل–تبادلي؛ فهي تفعيل وليست شيئا يملكه شخص ما أو شيء ما. فلا يمكن للإرادة الفاعلة أن تُمثَّل على إنها صفة للذوات أو اﻷشياء (ﻷنهم لا يوجدون مسبقا بوصفهم كذلك). اﻹرادة الفاعلة هي مسألة خلق تغييرات دورية لممارسات بعينها من خلال ديناميكيات النشاط–التبادلي. … وإذا فُهمت الإرادة الفاعلة على أنها تفعيل لا كشيء يملكه أحدهم، فإنه لا يبدو فقط مناسبا بل هاما أن نعتبر اﻹرادة الفاعلة موزعة على الصور غير اﻹنسانية كما هي على الصور اﻹنسانية.” (214)
4 بهذه الطريقة فإن الحلقات كانت ممارسة فراغية لم تكن اﻹرادة الفاعلة فيها خاصية معطاة لذات أو موضوع أنثوي وإنما كانت خلقا تشاركيا من عناصر مادية وخطابية.