20يناير 2020
كتابة: سالي الحق ومي بانقا
تواريخنا الإفتراضية(PDF)
تنويه:كل لون يعبر عن صوت كاتبة
نتصل بالإنترنت لنتصل بشيء خارجنا؛ ربما العالم، وربما أناس غيرنا، وربما مجموعة من الغرباء،و ربما لنكون جزءا من حركات سياسية، أو لنكون جزءا من مجموعات شريرة تخدع الطيبين ليجدوا أنفسهم سلعة في الشبكة الموازية “ديب ويب”. وهذه هي حلاوة الإنترنت؛ واسع، لا ينتهي، مثير للاهتمام وخطر كبحر مليء بكنوز من الأسماك الملونة والمفترسة والقواقع، والكثير من الغموض والفرص.
تأتي هذه الانعكاسات الشخصية لتوثق رحلة ووجود أنثيين على الإنترنت، لنستكشف كيف نعبّر (أو لا نعبّر) في مراحل عمرية وسياسية مختلفة، تفتيشًا عن معاني الوجود وتشكيل الوعي السياسي أونلاين، والتعلم بالتوازي مع الثورة وما قبلها، بدايةً من وقت انفتاحة التدوين في مصر وتوسع آفاقنا لخطابات شخصية وسياسية، وُجدت فقط في سراديب الإنترنت لمن تتبعها بفضول ليس له آخر.
أجرينا في “اختيار” بحثا يستكشف تأثير العنف الرقمي – بالذات “التحفيل” – على مشاركة النسويات أونلاين في الفترة بين (يوليو 2017- نوفمبر 2018). وبالتوازي مع نشره، كتبنا هذا النص ليعكس تجاربنا الشخصية وممارساتنا السياسية على فضاء الإنترنت، الذي وفر لنا براح لنعبر خارج حدود المجتمع الذي نسكنه، وخيال خارج الواقع اليومي للحياة.
التعرف على الإنترنت: التعرف على الذات
“ASL؟“
تومض على الشاشة – التي مثلت نافذة للعالم الخارجي – فرصة التعرف على أصدقاء وغرباء من جميع أنحاء العالم. هكذا أجابت، أنثى في فترة المراهقة، من القاهرة. أطل من الشاشة على عالم أوسع من حدود الغرفة والساعات القليلة المسموحة لي للتواصل، قبل أن أترك الكمبيوتر لأخي.
الرغبة في التعبير تنوعت وتطورت مع تطور منصات التواصل الاجتماعي، بداية من “Myspace”، وانتهاء بفيسبوك وتويتر. وكلها تقدم نفس السؤال بصيغ مختلفة؛ “بم تفكرين؟”. كأنثى، لا تُسأل مثل هذا السؤال خارج الشاشة. فيم تفكرين، وما آرائك حول كل شيء، بداية من الموسيقى المفضلة، وحتى الأحداث السياسية والاجتماعية المتغيرة، وانتهاء بكل المشاعر الشخصية جدا. فلكل هذا مكان على فضاء الإنترنت، وهناك دائما من يسمعك، ومن يعبرعن إعجابه، ومن يشارك نفس التجارب.
الحرية في استكشاف جنسانيتي حدثت بالتوازي مع وجودي على الفضاء الإلكتروني، فلا تحتاج سوى شاشة هاتف صغير متصل بالإنترنت وكلمة سر. الخروج من الخزانة لم يحتج سوى اسم مستعار واستكشاف جغرافيات اللذة المختلفة التي يقدمها الفضاء الممتد أمامي.
قدم الأهل الهاتف لضمان التواصل خارج المنزل، وتحديد خط السير، وأماكن وجودك طول الوقت. لكن شاشته مثلت نافذة على عالم أوسع رغم صغرها، بعيدا عن تلصص الأهل علي تاريخ البحث الخاص بك في كمبيوتر العائلة، أو تحديد الأوقات المسموح لك بالوجود فيها أونلاين.
شهدت تلك الشاشة الصغيرة أول مساحة للتعبير والتساؤل عما لا تجرؤ على قوله بصوتٍ عالٍ، أو أن تبحث عنه في كمبيوتر متفقدا المجال خلفك، علّ أحد يرى المعروض على الشاشة.
في مساحة مجتمعية – حيث الحديث عن الجسد والتغيرات التي تمر بها يعامل كأسرار حربية – حينها تمتلئ الشاشة بعديد من الأصوات، مستعدة للاجابة عن كل تساؤل، وكل خاطرة عابرة، بعضها يصرخ بحرمانية تلك الأفكار موفرا طرق للتوبة والكفاح ضد رغبات الجسد، وأصوات أخرى ترتدي معطف العلم وتحدثك عما يعني جسدك الأنثوي ورغباتك. فهي تطورات فيزيائية وهورمونات طبيعية. وترد أصوات أخرى بالصفات النفسية وطرح تصورات عن الأسباب وطرق العلاج، وأصوات تدعوك للدخول إلى ” جحر الأرنب “، فأنت “أليس” وكل ما عليك فعله هو التأكيد على تجاوزك السن القانوني (الثامنة عشرة) بضغطة على زر التأكيد لتمتلئ الشاشة بالعديد من الصور والفيديوهات والأصوات، تمثل كل ما لا يخبرك عنه أحد، كل المسكوت عنه يتم الصراخ به بأعلى صوت في الفضاء الافتراضي.
انقسم الوجود على الفضاء الإلكتروني – كالانقسام في الحياة – لعالمين؛ العالم العام من خلال أجهزة الكمبيوتر العامة في غرف السايبر أو غرفة معيشة العائلة حيث أتعلم وأتعرف على العالم، والعالم الخاص جدا في شاشة الهواتف المحمولة المتغيرة والمتطورة عاما بعد عام لاستكشاف النفس والوجود كمن ترغب في أن تكونه أكبر وأكثر حكمة.
قالت ناشطة مازحة إن الانطوائيين (introverts) هم الأكثر صخبًا أونلاين، وهذه مراهقتي، صاخبة أونلاين وهادئة اجتماعيًا… بدأ احتكاكي بالإنترنت في بداية مراهقتي؛ البحث عن معلومات، أصدقاء، أسئلة لا تستطيع أن تسألها لأحد غير غوغل.
كنت أعبر بهدف إيجاد أشخاص شبهي، البحث بلا مسميات كبيرة، بشراهة وعطش المراهقة، كان غرامي على الإنترنت هو المجتمعات السياسية الهادفة للتغيير، سواء في مصر أو خارجها، أدين لها بالكثير في التعرف على ذاتي والانخراط في ما هو خارجي، محيط العالم بأكمله.
الضغطة الأولى للإنترنت حدثت على “ماوس وكيبورد” للتحكم في شاشة كبيرة، دائما تساءلت لماذا هي بهذا الحجم، خاصًة عندما امتلكت أول لابتوب بعدها بسنوات في السنة الجامعية الأولى، والذي كان صغيرا لأخبئه وأطوف به كل مكان، سواء من تحت غطاء سريري في منزل الأهل، أو في محاضرات الجامعة غير المجدية، لم يكن هناك شيء مثير للاهتمام بقدر حاسوبي “النوتبوك” الصغير.
تتنقل وتختلف الإتاحة والفرص الناتجة عنها من الكمبيوتر الكبير إلى اللابتوب إلى الهواتف الذكية، كل جهاز منهم كان مرحلة في حياتي، وسبيل إلى المعرفة والتواصل، ومعهم تغيرت وشاهدت كيف تتغير التكنولوجيا.
الإنترنت السياسي والمحتوى العربي
تطورت علاقتي بالإنترنت كمساحة للنقاش والتعبير والتعلم بالتوازي مع الثورة، إذ مثلت منصات التواصل الاجتماعي (تويتر وفيسبوك) فرصة للوجود في دوائر نقاش مختلفة حول العديد من القضايا، فرصة لا تحكمها الجغرافيا، أو الوقت، أو القواعد المفروضة من العائلة بعدم الاشتباك مع ما يحدث على الأرض خوفا من التعرض للخطر. علي الفضاء الإلكتروني، ساهمت في النقاش، وفي الاشتباكات، ومشاركة وتوثيق ودعم وغيرها. كلها انتقلت لغرفتي الصغيرة في بيت تحكمه قواعد أين يجب أن أكون كأنثى في مثل هذا الوقت المتأخر من اليوم.
مناقشات تسبح أمامك، حاملة الكثير مما لا تعرف من كلمات واهتمامات وتوجهات، من أقصى اليمين لأقصى اليسار، تاريخ سياسي واجتماعي لم يكن متاح التعرف عليه بسهولة قبلها. اندفعت مع النقاشات التي لم يكن لدي القدرة للانضمام إليها، فأتابعها في جوع للمعرفة، جوع وجهني لمحاولة اللحاق بكل ما يُقال وكل ما يُطرح في تتابع أسرع مما تمنحه الحياة لك في العادي، لاتخاذ القرار بالانتماء لأي مجموعة (اليسار، العلمانيون، المحافظون، وغيرهم) مع أصوات خافتة وقتها لبعض النساء، تطلب على استحياء وضع قضايا المرأة على أجندة النقاش. متابعة النقاش على تويتر تمت بالتزامن مع محاولة التعرف على ذلك التاريخ عن طريق مدونات يتم ذكرها مرارا وتكرارا، لا تكفي عدة ساعات في اليوم لتصفحها مثل تويتر، وراحة في التعبير عن كل تلك المواضيع باللغة العربية بالعامية لتصبح متاحة لمثلي ممن لم يسبق لهم الانخراط في نشاط سياسي أو اجتماعي “على الأرض” لتدرك أنك أجهل من نملة، ولا تملك الوقت الكافي للحاق بكل تلك المعلومات. سواء معلومات على الأرض ممثلة في عنف الدولة والتحليل السياسي لها ووضع استراتيجيات للحل الأفضل، أو التخيل المنطقي للمستقبل ممثلا في الوجوه والأسماء العديدة لما عرف بالـ ” ناشطين السياسيين”. مساحة كل ما هو سياسي وجمعي توسعت للتزاحم مع مساحة كل ما هو شخصي وفردي على الإنترنت وقتها.
مع التقدم في العمر، وتنوع سبل الإتاحة وتعدد منصات التواصل، لم يعد الإنترنت مجرد نافذة أو فضاء خاص/عام، بل ضرورة أساسية من ضروريات اليوم. العالم على أطراف أصابعنا، والتكنولوجيا تلبي جميع الاحتياجات، من أول التواصل، وحتى ترتيب المواعيد، والتعلم، ومتابعة الدورة الشهرية، وتنظيم الوقت، وحتى التذكير بشرب الماء.
تعمل خوارزميات في الخفاء بتصميم لتحضر لك قائمة من كل التفضيلات، بناء على كلمات البحث المفتاحية، وحتى الموسيقى التي تستمع لها. ومع تطور الأحداث في الفضاء العام، تطورت الكلمات المفتاحية لتنضم لها النسوية، تاريخ الحركات السياسية والاجتماعية، والسياسات الخاصة بالفضاء الإلكتروني والمنصات الاجتماعية.
أفكر في الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي كأرشيف شخصي حي، يوثق تغيراتي واهتماماتي الشخصية والاجتماعية والسياسية، اهتمامات وأفكار تغير الكثير منها ونضج على مدار الوقت، لكنها في وقت ما كانت حقيقية جدا، أتذكرها حين أعود بالصفحة للخلف لأجد أمامي تويتة أو بوست شخصي، أو نص قديم يجعلني أهز رأسي في استغراب متساءلة “من هذا الشخص؟”
أدين للإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي في وقت سياسي واجتماعي مشحون بكثير من التعلم السياسي والنسوي وغيره. محادثات شخصية بين الأفراد من مختلف الانتماءات والتوجهات، من أقصى اليسار لأقصى اليمين، معارضين أو داعمين، في محادثات تبدو شخصية جدا. تتابع هذه المحادثات عبر التويتات التي لم تتعدى 140 حرفا وقتها، حول مختلف المواضيع التاريخية والحالية، لكنها شكلت بوتقة مفعمة بالحياة. هذه المحادثات عبارة عن دائرة وعي وتثقيف، تقود بعضها للاشتباك مع من يتحدث بسؤال أو اعتراض، وتقود أخرى لتاريخ أقدم من مدونات وغيره. تركت كأرشيف حي مدونات غنية ليس فقط بالمواضيع اللي تقدمها، لكن أيضا النقاشات التي دارت وقتها في شكل تعليقات – والتي قد تبدو عملية تبادل فردية جدا أو شخصية في حميميتها – لكن علي الانترنت هناك دائما من يشاهد. وقد كنت من ذلك الجيل، أشاهد وأتتبع.
تغيرت العلاقة بذلك الفضاء مع العمر، من مجرد نافذة على العالم أساهم فيها كمستقبلة لجغرافيا متسعة أملك فيها حرية الاستكشاف وأترك خلفي آثار يسهل تتبعها، إلى وعي نسوي وسياسي واهتمامات شخصية متغيرة ومتجددة.
مع الوقت وتغير الوضع السياسي والاجتماعي، أصبحت المناقشات أعنف، إذ لا ترغب في محاورة الطرف الآخر بل إلغائه من الوجود الافتراضي، متسلحا بأدوات التبليغ والحجب التي وفرتها بكرم منصات التواصل الاجتماعي. حرب في الجغرافيا الافتراضية تعكس ما هو خارجها، وهي الرغبة في جعل المساحة خالية من أصوات الآخر أيا كان. أصبح الـ 140 حرفا دعوة للحرب والتهديد والعزل، وسلاح استخدمته كل الأطراف من أقصى اليمين لليسار.
منذ عام 2007 حتى اندلاع الثورة في مصر عام 2011، كانت تعاملاتي الأونلاين مع أشخاص موجودين جدًا في حياتي اليومية، ويأخذون حيز لكنهم كانوا مجرد أصدقائي الافتراضيين؛ “أصحابي عالنت”. لم يكن هناك ما أخسره على ما أظن، كانت هناك مساحة حرية في أن تكون لك احتكاك بغرباء قد يتشاركون معك هوية أو اثنتين، ونوعا ما بالتأكيد تتقاطعون في آرائكم السياسية والكتب التي تقرأونها. من خلال الإنترنت، تعرفت على النسوية وقرأت كلمة “كوير” للمرة الأولى على مدونة شابة ما، وبحثت في القاموس الانجليزي عن معنى “كوير” فوجدت أنها تعني الغريب. وكنت أشعر حالي غريبة لكن لم أفهم ماذا تعني هذه الكلمة في إطار الهوية الجنسية. لم استوعب النظرية لكنها استوقفتني في الثامنة عشرة من عمري. كنت أيضًا اتأرجح في خطواتي لفهم الماركسية، وحركات التغيير الاجتماعي، وأتتبع آثار الأقدام الرقمية في مصر لفهم لماذا حياتنا ليست سهلة ونوعًا ما بائسة، وليس لماذا يجب أن نعيش هكذا. كان هذا في فترة نظام “مبارك”. بعد الثورة أو خلالها، تغير الأمر قليلًا، فأصبح أصحاب الإنترنت هن/م الناشطون… هم التروس التي تتسبب في أو تدعم انتشار الفوضى الجميلة، التغيير، المستقبل الأفضل، مصر الملونة والأطيب. أصبحنا نتقاطع، ثم أصبح واقع العمل في حياتي المنشغل بالحقوق، لم نعد غرباء، وبدأ يكون لأصحاب هذه الحسابات وجوه وقصص. وكذلك بدأت أنا أكون لي وجه وقصة.
الإنترنت باللغة العربية كان يعاني من ضحالة المحتوى عن كل ما له علاقة بالحقوق والجنسانية والجندر، وربما هذا ما افتقدناه جميعًا في فترة تشكيل وعينا عن طريق مصادر انجليزية، مستخدمين الكم كلمة اللي نعرفهم من المدرسة والأفلام والأغاني والروايات. الطبقة تلعب دور كبير هنا في قدر تمكنك من لغة ثانية، بالذات في سن المراهقة. وكأبناء وبنات الطبقة الوسطى، لم تأت معرفتنا الحالية بالساهل.
هذا ما فعله المحتوى العربي النسوي الكويري الخارج من فلسطين ولبنان بي، جعلني أعي ما تعنيه ال م.م.م.م، كانت كثير من الميميهات قبل أن تتطور وتصبح مجتمع الميم. جعلوا المثلية قريبة للبيت، وليست بعيدة ولا أجنبية. كانت الرحلة في بروفايلات المسئولات عن هذا المحتوى تحتوي على إثارة غير طبيعية؛ هل هي فعلًا تحب النساء؟ هل كتبت هذا النص؟ هل هذه رفيقتها الحميمة؟ رحلة للتفتيش عن المعرفة الشخصية التي تستمد منها القوة لتكون أنت، ورحلة لقراءة كل مقال، قصيدة، بحث، كتاب شكروا فيه. وكان عنصر الإثارة رحلاتي للمعرفة يزيد كلما كان الهدف حميمي وشخصي وخاص.
البيت ممتد للإنترنت
تاهت الحدود ما بين الافتراضي والواقعي، المنزل والشاشة، فكل سطر وعلامة إعجاب أو صورة هي علامات تحذير تشير لخروجك عن الطريق المرسوم بعناية من العائلة والمجتمع عن صورة الفتاة المحترمة ذات الاهتمامات العادية جدا، والآراء المتسقة مع آراء المجموعة الأكبر.
“امسحي تلك الصورة، لباسك فيها غير لائق”… ” لا تنشري صور عارية هذا ليس فن، هذه قلة أدب”… ” ما معنى ما كتبتيه اليوم؟”. جاء تويتر كحل مثالي ومنقذ في تلك اللحظة، فالرقابة المجتمعية الممارسة عليك في مساحة الفيسبوك يمكن الهرب منها مؤقتا على تويتر، الذي ما زال مليء بالغرباء، ومساحة التفسير أقل لقلة عدد الحروف المتوفرة للتعبير عن النفس. لكن مع انفجار أحداث الثورة على الأرض، تغيرت جغرافية تويتر كمساحة للهري غير الهادف. انفجر بالآراء السياسية والهتافات، وأصحبت الشخصيات عامة جدا، أكثر صخبا وجدية . قطعها انقطاع الإنترنت لفترة، لتعود أقوى وأعلى بعد عودته الحميدة.
أصبح فيسبوك لجمع الأصدقاء والمعارف والعائلة، وتويتر مساحة “للهري” بدون أي غرض.
بمرور الوقت، اتسع وامتد فيسبوك ليصبح المنصة الأساسية للتعبير عن النفس في مساحات مألوفة أكثر، ومعها تطورت مهارات الرقابة الذاتية، فالتعبير عن النفس والآراء الشخصية أصبح يمر علي عدسات الأصدقاء والعائلة، فتُسأل خارج الواقع الافتراضي لم كتبت هذا الرأي أو ذاك؟ وما معنى تلك الصورة؟ ومن هؤلاء الأشخاص؟
أصبح ذلك الفضاء مألوفا بشدة، تنتقل آراءك بمكالمة هاتفية من الخالة فلانة للأم، لأجد نفسي أمام “تحقيق” غير رسمي في المنزل بخصوص أفكاري.
أصبحت الرمزية والكلام بضمير الآخر هي اللعبة الجديدة، وانقسمت الفضاءات المختلفة لتشمل قائمة محدودة للعائلة، محدودة في اطلاعهم على البروفايل للتحايل على الرقابة، حتى جاء قرار الانسحاب من فيسبوك كحل أمثل . ليس لدي حساب فيسبوك، وأُنكر أمامهم وجودي على تويتر، إذ تمرست في لعبة الرمزية والاختفاء والكلام المُضمن الواسع، بخلاف منصات أخرى أتخفى فيها وراء المجهولية أو وراء حساب بخصوصية محكمة، أتمادى في لعبة أنني لا أرى طلبات “الصداقة” غير المرحب بها. غرف مألوفة في ضاء واسع، ألفة المراقبة والمحاكمة والقواعد والصور عما يجب أن نكونه، ألفة العنف الرابض عند الزاوية في انتظار أن يعيدك وراء خطوط المقبول إن فكرت في تعديها.
كنت ضمن أول أربع بنات في عائلتي انضممن لفيسبوك في عام 2007. إحدانا لا يحاسبها أحد لتربيتها في أمريكا، واثنتان من عائلة أمي وأبوهم “كوول”. لم يكن أحد في دائرتي المدرسية، التي هي أيضًا الاجتماعية في مرحلة “الإعدادية”، على فيسبوك. أنشئت حساب عليه، بفضول إيجاد عالم يمكنني التفاعل معه. من خلال فيسبوك، تفتحت دوائر لانهائية من التواصل، وحسابات أخرى على منصات أخرى؛ Goodreads, wordpress, diigo. عوالم تنفتح وأنا أنحرف كل دقيقة بعيدًا عن كل ما يؤمن به كل أحد داخل غرفة معيشة بيتنا.
بحلول عام 2012، كان كل من أعرفه قد أصبح على فيسبوك، وجاءتني طلبات الصداقة من أختي واصدقائها ومعارف المدرسة، وزوج أختي وبنات خالتي، لأتصدى لهم بـ “بلوك”، وأكثف إعدادات الخصوصية على حساباتي، وبهذا أكون “الشبح” الذي أنا عليه الآن، ليست لي ملامح رقمية من السهل تتبعها إلا وإذا سمحت بذلك.
في عائلتي، أحدهم “نقحت عليه” ذكوريته لصورة لي لم يجدها لائقة وفق نظرته عن الأخلاق في ملابس البنات، وألا تأخذ صورة حميمية مع صديق، وأخرى نقحت عليها أخلاقها لقراءتها “أ*ة، ولاد الق*اب” على بوست غاضب عن انتهاكات الشرطة للمتظاهرين في مصر. وتطول قائمة منطقهم الأخلاقي، وأصبحت – بدون الكثير من الانتباه – أستفزهم بها أونلاين لتلاحقني في عشاء عائلة أو مكالمات تليفونية غير مرحب بها تقلب يومي وحياتي.
فقدان البراءة: التحفيل
“لو شفتك في الشارع حغتصبك”
كان ردا من أحد المستخدمين على تعليق كتبته حول المشاركة النسائية في المظاهرات. لم يكن صاحب الحساب ضد المظاهرات أو مع النظام، لم يكن – علي حد قوله – ضد النساء، بل يرغب في ألا تساهم ممارسات هؤلاء النساء غير المقبولة اجتماعيا (مثل تدخين السجائر أو المبيت لوقت متأخر في أماكن الاعتصام) بتشويه صورة الثورة.
رسالة أخرى: “أعلم من أنت، وسأخبر أهلك بما أنت عليه”. جاء التهديد محمي بمجهولية مطلقة، ردا على تعبيري عن أن يومي سعيد. لم يرغب صاحب الحساب المتخفي في الظلال أن يحظى مثلي بيوم سعيد.
توسعت الرقابة وتشرست ما بين سياسات منصات التواصل الاجتماعي، وتضييق سياسات الدولة على الفضاء الإلكتروني. لكن أشري أنواع الرقابة كان في الرقابة المجتمعية المتسلحة بسلطة العزل والهجوم والتهديد تحت مسمي يبدو غير مؤذي، وهو “التحفيل”.
أذكر أنه في البداية، كانت أسباب الهجوم واضحة أو ربما مفهومة “السياسة، الدين، الجنس”، أو علي الأقل هذا ما اعتقدته. لكن في الحقيقة أي رأي كفيل بتحويلك لهدف للتنمر، قد يكون لاختلاف مع الرأي أو اختلاف مع شخصك. قد يكون لأن أحدهم يمر بيوم سيء ومررت أنت أمامه على التايم لاين أولا. قد يكون لأننا كنساء، فلا يجب أن تكون لنا آراء سواء مخالفة أو متسقة مع أي شيء أيا كان. فالتسفيه هو الوسيلة الأسهل، أو كما يحب أن يصيغها البعض في جملة “ارجعي المطبخ” كلما تحدثت النساء عن شيء ما. ويزيد هذا التوجه في حال مناقشة تلك اللعبة المقدسة الرجالية جدا؛ كرة القدم.
لحظات التحفيل والهجوم التي أذكرها خلال تاريخي في المنصات المختلفة ليست بالقليلة. وقبل البدء في التفكير والنقاش حول تأثيرها لم أعتقد أنها مؤثرة لذلك الحد، فلم أعتبر دوري فيها سلبيا، ولم أنظر لنفسي قبلا كضحية لهجوم دفعها لتغيير سلوكيات وطريقة مشاركة. لكن في الحقيقة، بعد مرور الوقت، تغير الكثير. مجرد التهديد بأن ما سأشاركه أو أقوله الآن سيجلب لي المتاعب أو “وجع الراس” يجعلني أفكر ألف مرة، لمدة لا تتعدى ثوانٍ، بأن الموضوع لا يستحق التوابع المتعلقة به. واستبدل المشاركة مع العالم لمشاركة شخصية أونلاين أو أوفلاين مع دوائر أقرب من الأصدقاء.
أحب أيضا أن أذكر نفسي بمساهمتي في ثقافة “التحفيل” وغيرها بالمشاركة الفعالة كثيرا، في مواقف مختلفة ضد العديد من الأفراد أو حتى بمشاركة أو حفظ إسهامات آخرين، لا أتفق بالضرورة مع رسائلها الكارهة للمرأة والآخرين (والهموفوبيك)، لكنها مغطاة بطبقة لامعة من الفكاهة تجعلنا نساهم في الثقافة التي نحاول تغييرها بشكل فعال، بسهولة تخيفني لمجرد تخفي تلك الثقافة في زي النكتة والفكاهة.
عندما أعود إلى أرشيفي الإلكتروني في 2006-2007 وأقارنه بكيف أشارك إلكترونيا الآن، أتعجب!
لم تعد المجهولية تسعني كما قبل. لم تعد تكفي. كان هناك تناقض في الرغبة بين أن تصبح مرئي، وفي الرغبة في ألا يبقى أثرك وألا يتم تتبعك. الحقيقة أنني أود أن أكون الاثنين معًا، مرئية ومُجهلة. أريد أن أُرى تعويضًا عن عنف كل ما هو لا مرئي من هوياتي، لكنني لا أريد أن أكون مُعرضة للابتزاز أو التشييء، وهذه أشياء لا تستطيع التحكم فيها عندما تشارك نفسك مع العالم. أو على الأقل هذه هي المعطيات التي تجلبها لنا التكنولوجيا والشركات والواقع حتى الآن.
هل تم التحفيل عليّ من قبل؟
مرة أو اثنتين! الأولى كنت وميم باء نغرد في يوم “يوم واحد نضال واحد“” باللغة العربية باللهجة المصرية عن الحقوق الجنسية وتنوع الهويات وأشكال القهر.. كان تويتر وقتها في سياقنا على نار، وكنا مجرد مستخدمتين مخلصتين لتويتر، نغرد ونضحك ونحب ونهس ونشارك قراءاتنا ونعرف الأخبار. لكننا لم نكن لا “انفلونسرز” ولا يلاحظنا غير المختبئين من الواقع مثلنا في حواري تويتر. كنا غاضبتين وتحركنا النسوية وعنف واقعنا وصغر سننا، وبالتالي شراستنا… بدأت الحفلة علينا. تلقت صديقتي تهديدا بالاغتصاب علنًا من وجه مألوف لرجل في “الثورة”، نُسب بأفظع الألفاظ علنًا من مستخدمين في مصر والمنطقة الناطقة باللغة العربية، ينضم لنا جيش المحبين من ناشط هنا وناشطة هناك، نغرد جميعنا على أمل أن يكون صوتنا أعلى من صوت المهاجمين. هل تأثرنا؟ لا! كنت أحلق بنشوة التعبير عن النفس والتعرض للخطر وتلقي الدعم، ربما لو لم نكن تلقينا الدعم من نسويات لا نعرفهن، كنا تأثرنا بشكل سلبي. كان هناك جمال في توالي التغريدات الناصرة للحريات والحقوق، وبدء صداقات جديدة مبنية على الرغبة في تغيير واقع بلدنا للنساء والمجتمعات. بالطبع هناك أذى له علاقة بأن ما تسب عليه هو حياتك، ورؤية تغريدة كارهة ستبقى على الإنترنت تحمل اسمك، وما أنت عليه، وما تصدق فيه، لها وطأة قاسية، ولها اساس من الكراهية، لكننا لم نبالي وقتها.
لم أتأثر في بدء التعليقات ولا موجات الهجوم، فقد كانت أصوات النساء والأقليات الراغبة في فتح النقاش حول الحقوق الجسدية والجنسية وكل ماهو شخصي خافتة في البداية، تذوب في الزخم الأكبر العام والسياسي بامتياز. ارتفعت الأصوات بعدما فشلت محاولات تغطية اغتصابات التحرير بأعلام الثورة، بعدما ارتفعت أصوات الأقليات الجنسية تتساءل أين نحن في الصورة الكبرى. ارتفعت الأصوات من النساء اللاتي تحدثن عن كل ما هو حميمي، وعن المحاولات الفاشلة لتهدئتنا بتسميات وتمثيل صوري.
في يونية 2012، تعرضت مسيرة من النساء والرجال للتحرش والضرب، لأنهم تظاهروا ضد التحرشات التي تحدث في ميدان التحرير. ثم ظهر #مسيرة_الشراميط للتحفيل على الناشطات والنساء المتظاهرات المشاركات في الوقفة، وكرد على #لا_للتحرش #EndSH.
عندما تزور هذا الهاشتاغ على تويتر الآن، تجد أنه كما نسجل أحيانًا ذاكرة حركتنا السياسية من خلال وسوم، هناك أيضا ما تسجله الذاكرة الرقمية من عنف وتحفيل في وقت سياسي شكل الكثير من التغيرات. نحن ننسى لكن الإنترنت لا ينسى، ويسجل كل قبح مثل كل جمال. يذكرنا الهاشتاغ بأن الإنترنت بالفعل امتداد للشارع بكل عنفه.
#مسيرة_الشراميط هو أكثر اللحظات المؤلمة التي أذكرها في تاريخي على مواقع التواصل الاجتماعي. امتلاء به التايم لاين خلال يوم بعد أول حادث تحرش جماعي لي. رجعت لأطل من تلك النافذة على وجوه مالوفة، ودعم ممن يشبهوننا ويشاركون نفس القيم والحماس. لكن واجهتنا السخرية مما حدث. ماذا كنا نتوقع ونحن نطالب بالاعتراف باعتداءات جنسية جماعية أو وقف التحرش!
الإنترنت تجدد مائها
كان بحثنا منذ البداية يجاوب على سؤال “الحفلة على مين؟”، سؤال تجده في تغريدة، تعليق على فيسبوك. سؤال مطروح من حسابات مختلفة، شاب يشعر بالملل، أو مثقف يشعر بعظمة كذابة، أو مستخدمون/ات يشعرون أنهم أفضل من الآخرين… بدأنا العمل على البحث من موقعنا كنسويات منشغلات بالحقوق الرقمية واستدامة مساحة رقمية تتيح لنا التعبير والتنظيم والاشتباك. كان لدينا الكثير من الأدلة من واقع تجاربنا أونلاين، والكثير من الافتراضات أيضا. قابلنا ثماني نساء من خلفيات وأعمار مختلفة، تتفاعلن بأدوات مختلفة مع الخطاب النسوي المنشغل بواقع حياة النساء والحقوق الجسدية والجنسية. وكعادة الواقع بتكسيرنا لفعل “التحفيل”، كان هناك عامل الامتيازات، الذي يحدد من يتم التحفيل عليهم ومن لا يتم. هناك بعض المستخدمين يحفلون على الجميع بدون تفرقة عندما تعبر عن شيء لا يتناسب مع الواقع الأخلاقي المهيمن والعادات والتقاليد في مصر. لكن امتيازك الطبقي والعلمي والوظيفي وأهمية ونجومية أصدقائك قد تحميك من أن يُحفل عليك.
هناك حلاوة ما في حركات تغيير تثير صخبًا أونلاين، هناك أمان في تغريدة تعاكسك وتدفق بالحب كُتبت فقط لتمر كإيماءة لذيذة خاطفة على فضاء الإنترنت. هناك شغف في محتوى نسويات الجنوب العالمي ونحن نخلق محتوى يرفض ويفكك ويقاوم التفرقة المبنية على الجندر أو العرق أو الهوية الجنسية، ويحاسب الشركات ومقدمي الخدمة على صنعهم لاقتصاد من بياناتنا، ويفضح أفعال العنف الرقمي من مستخدمين آخرين.
لدي الكثير من المشاعر المختلطة حول التكنولوجيا والإنترنت عموما. لا زلت أحب مواقع التواصل الاجتماعي وموقعي المتغير منها كشخص يراقب بدهشة استخداماتها المختلفة لدى أجيال أصغر على سبيل المثال، واحتلال مساحة تويتر في كثير من الأوقات لمشاركة الصور الشخصية والتعبير المختلف عن الأفكار والتوجهات، بالرغم من ازدياد قبضة المراقبة المجتمعية المتسلحة بسياسات مواقع التواصل الاجتماعي في التشجيع على التبليغ عن وإغلاق الحسابات لمختلف الأسباب المنطقية وغير المنطقية.
ومع توسع عملنا على الإنترنت النسوي ومسئولية الشركات نحو المستخدمين، ومسئوليتنا الجماعية كمستخدمين ونسويات، حول محاولة تخيل أو تفعيل الإنترنت الذي نريده بكل تنوعاته ومساحات التعبير واللعب والتأكيد والتواصل التي يحققها، لكن بوعي حول الممارسات غير المنفصلة عن الواقع التي تتحمل النساء العبء الأكبر منها. أحب الإنترنت وفرص التعلم والنمو التي وفرها لي، لكنني أرغب في المزيد من مساحة لا أخشى التعبير فيها، ولا أن أفكر ألف مرة قبل الضغط على زر الارسال.