All posts by Ikhtyar

دعوة لتسييس السياسي

 

 

نص مُجهل

قبل فترة قصيرة، استمعت إلى تسجيل لفتاة بحرانية تحكي عن تعرضها للاغتصاب، واكتشفت بعدها أن اسمها زهرة الشيخ. ردود الأفعال تراوحت بين من عبر عن مساندته ودعمه لها، من شكّك في مصداقيتها وقام بلومها على ما تعرضت له، ومن اكتفي بالصمت. كم شعرت حينها بالخذلان والخيبة والوحدة. كان من الممكن أن أكون في محلها بسهولة. من الممكن أن أكون في محلها في المستقبل، ولن يكون هناك من ألجأ له. زهرة استحقت حينها وتستحق اليوم أكثر بكثير منا جميعًا. خذلناها جميعًا. 

لا أكتب هذا المقال لتحليل حراكاتنا المقاوِمة بمحاسنها ومساوئها، وإنما أكتبه لمجرّد التعبير عن خيبة ظنّي فينا، نحن من ندّعي معاداتنا ومحاربتنا للظلم والاستبداد والأبوية. أحاول أن أقوم بذلك بشكل نقدي، وذلك ليس تقليلا من أشكال مقاومتنا الحالية أو تفنيدا لشرعية أي حراك يحاول مقاومة الظلم والاستبداد، وإنما محاولة لممارسة المحاسبة الذاتية ودعوة للتفكير معا.

ما تعلمته من ردات الفعل تجاه زهرة هو أننا لا نمانع أن نمحي نضال نسائنا من مخيلتنا الاجتماعية، بكل أريحية وبكل سهولة. زهرة الشيخ، لِمَن نَسِيَ منّا أو تناسى من تكون، شاركت في نضالنا من أجل بحرين أفضل. تعرضت لعدة اعتقالات بسبب نشاطها السياسي في 2012، 2013، 2014، وحتى 2018. قضت شهورا من حياتها في السجن، بعضها مع ابنها الذي لم يتجاوز الستة شهور حينها. اعتقل زوجها الذي لا يزال في السجن، فهو محكوم لمدة 15 سنة كاملة. اضطرت للجوء إلى بريطانيا ولا زالت هناك. هل نسينا هذا كله؟

في التسجيل الصوتي لزهرة، روت عن تعرضها للاغتصاب من قبل شاب بحراني اسمه أيمن الغسرة، حين كانت في زيارة دينية للعراق. يأتي هذا التسجيل في سياق قيام عدد من النساء البحرينيات بالتحدث عبر تويتر عن تجاربهن المختلفة مع الاعتداءات الجنسية، ومن ثم مواجهتهن لردات فعل مختلفة قد تكون داعمة وقد تكون عنيفة وتوجه اللوم للضحية. إحدى هؤلاء النساء كانت زينب (أو آنيا)، وهي ناشطة نسوية تويترية بحرينية، تحدثت عن تعرضها للاعتداء الجنسي من قبل إخوتها. تضامن معها الكثيرون وعبروا عن دعمهم وتصديقهم لها، وقامت زينب بشكر من دعمها وعبرت عن أسفها لكل امرأة تعرضت أو تتعرض لأمر مماثل. وأدّى هذا إلى انتشار الهاشتاق (#إلغاء_المادة_353) في الفضاء التويتري البحريني، وهي مادة في قانون العقوبات البحريني تعفي المغتصب من عقوبته إذا تزوّج من ضحيته. وقامت جمعية الشباب الديمقراطي البحريني بحلقة حوارية عن الموضوع عبر قناتها في اليوتيوب. في الحديث عن هذه المادة تحميلٌ للدولة جزءًا من المسؤولية، وعدم حصر هذه المسؤولية في المجتمع أو حتى في المغتصب لوحده. قد تكون هذه لحظة إيجابية، فهي محاولة لمقاومة عنف المجتمع والدولة معًا دون الفصل بينهما، وهي فعل مقاوم يمكننا البناء عليه.

ولكن، لماذا غاب هذا الدعم عندما تحدثت زهرة عمّا تعرضت له من اغتصاب؟ لماذا الصمت أو التشكيك؟ ولماذا لم نعُد نرى دور الدولة ومسؤوليتها في هذه الحالة؟ ما الذي اختلف؟ هل كان مزعجًا بالنسبة لبعض النسويات كون زهرة مناضلة ومعتقلة سابقة وزوجة معتقل؟ هل كان مزعجًا بالنسبة لبعض المعارضين للنظام كون مغتصب زهرة شاب بحراني وليس رجل الشرطة؟

أعتقد بأن جزءًا من المشكلة هو أن الكثير من محاولاتنا لمقاومة عنف المجتمع والدولة هي محاولات منفصلة، تركّز إمّا على نقد المجتمع أو الدولة، وتتعامل معهما ككيانان منفصلان، دون أن تحاول أن تكشف عن الطرق المختلفة التي يستخدمانها ليساعد كل منهما الآخر على تعنيفنا. يبدو لي أن الحراك النسوي البحريني التويتري، في شكله الحالي السائد، يركز على مقاومة عنف المجتمع دون الدولة، بينما تقوم المعارضة السياسية، بشكلها السائد، بالتركيز على مقاومة عنف الدولة دون المجتمع. يبدو لي أنه لا يوجد لدينا حراك يقاوم عنف الدولة والمجتمع دون فصل، على الأقل بشكل سائد ومنتشر ومستمر. 

حسب فهمي للحراك النسوي في البحرين في شكله السائد، فهو لا يرى أي مشكلة في تركيزه على مقاومة الأبوية دون مقاومة النظام. يستخدم خوفه من عنف الدولة كعذر. قد يؤدي خوفنا إلى صمتنا أحيانًا، ولكنّي لا أعلم إن كان خوفنا يؤدي إلى استخدامنا لمنطق الدولة لتبرير عنفها تجاهنا. لا أعتقد أن هذا الخوف هو السبب الوحيد. أعتقد أن هذا الحراك النسوي السائد لا يرى الدولة مسؤولة أصلًا عن تعنيفنا كنساء، ولا يرى الضرر في إخلاء الدولة من هذه المسؤولية، ولا يرى أن مقاومتنا للأبوية تحتم علينا أن نقاوم النظام أيضًا. حين يحاول البعض نقد أي من النسويات على مواقفهنّ من الدولة، قد يتخذن وضعية دفاعية، بدل مراجعة أنفسهن وتحمّل المسؤولية، وقد يتعذّر البعض منهن لكونهن يقمن بعمل المستطاع أو الممكن.

هنا، أطرح بعض التساؤلات للنسويات: 

لماذا لا تردن أن تحاسبكن نساء مجتمعكن؟ لماذا تقمن بالعمل الذي تقمن به ومن أجل من؟ ولماذا لا يزعجكن كون عملكن لا يحاسب كل من كان مسؤولا عن تعنيفنا لجندرنا وجنسانيتنا؟ وأخيرًا، ألا يجب أن يقوم نضالنا بتوسيع ما هو ممكن بدل الرضوخ للممكن الحالي؟

أما بالنسبة لمعارضتنا للدولة، في الشكل السائد لهذه المعارضة، فهي تعتقد بمحاسبة الدولة دون المجتمع على العنف الذي نتعرض له، وهي لا ترى أي ضرر في حصر نضالها ضد الدولة فقط، ولا ترى أي ضرر في النظام الأبوي الذي يحكم مجتمعنا. يتخذ جزء كبير من العمل المعارِض في البحرين شكل العمل الحقوقي، وهو لم يبدأ في عام 2011، ولكنه انتشر بشكل كبير منذ ذلك الوقت، قد يكون ذلك بسبب التضييقات على الأشكال الأخرى من العمل السياسي، وقد يكون كمحاولة لتوثيق الانتهاكات التي اشتدت حينها. رغم أن الكثير ممن اشتغل ويشتغل في هذا المجال هم من النساء، كزينب الخواجة، مريم الخواجة، ابتسام الصايغ، نضال السلمان، وغيرهن ممن يعملن في العلن أو خلف الكواليس. رغم ذلك، أتساءل، مَن يسيطر على الكثير من قرارات واتجاهات هذا العمل الحقوقي بشكل خاص والعمل السياسي المعارِض بشكل عام.  في الفيلم الوثائقي الذي تحدثت فيه نجاح يوسف عن تجربتها في السجن وتعرضها للاغتصاب من قِبَل رجال الشرطة، يقوم رجل حقوقي بحراني بالتحدث معها على الهاتف لتوثيق هذا الانتهاك (25:10 – 26:30). قد تكون مجرد إعادة تمثيل لما حدث، ولكن حتى في إعادة التمثيل هذه، أتساءل إن كانت نجاح مرتاحة في سرد هذه التفاصيل لرجل، وإن كان حقوقيًّا، وأتساءل إن كان ذلك يُصعّب على الناجيات الحديث عن تجاربهنّ. أما زهرة الشيخ، فحين تحدثت عن تعرضها للاغتصاب في التسجيل الصوتي الذي انتشر على تويتر، فقد قالت بأنه حين لجأت لبريطانيا، وحين طلبت المساعدة من المناضلين السياسيين والحقوقيين الموجودين هناك، لم يساعدها أيّ منهم بالشكل الكافي، رغم أنهم يكتبون البيانات عن انتهاكات الدولة تجاهها. ونتيجة لذلك، اضطرت زهرة للبقاء في الشارع مع ابنها الصغير.

هنا، أود طرح هذا التساؤل للمعارضة والحقوقيين منهم بالذات: من أجل من تقومون بعملكم الحقوقي؟ لماذا تكتبون البيانات عنّا إن كنتم ستردوننا حين نلجأ لكم للمساعدة؟ 

هذه التساؤلات ليست هجوما على أحد، ولكنها دعوة للتفكير والمحاسبة الذاتية. إن كنّا جميعا نريد أن نعمل من أجل بحرين أفضل، ألا يجب علينا أن نحاسب كل من كان مسؤولا عن الوضع القائم؟ لماذا لا نمارس هذه المحاسبة عندما تتحدث امرأة عن تعرضها للاغتصاب؟ لماذا لا نزال نوجه اللوم لها؟ لماذا لا ندعم النساء إلا حينما يكون الأمر سهلا؟ لماذا لا ندعمهن إلا بشروط؟ أندعمهن فقط حين يكون المعتدي شخص شرير جاء من الفضاء؟ 

لا نود محاسبة أنفسنا، ونتحاشى النظر أو الحديث عن الاغتصاب حين يجب علينا الاعتراف بالذنب والمساهمة في ثقافة الاغتصاب هذه. الاغتصاب، كما أفهمه، ليس حدثًا عابرًا خارجًا عن سياقه. المسؤول عنه ليس المغتصِب لوحده. اعترافنا بذلك لا يعفي المغتصب من مسؤوليته، وإنما يحمّل كل من كان مسؤولًا مسؤوليته أيضًا، وذلك يتضمن كل من ساهم في خلق بيئة تجعل من وجود الاغتصاب ممكنًا. فالدولة مسؤولة، وكذلك المجتمع.

الدولة هذه هي التي تشرع الاغتصاب في المادة 353 من قانون عقوباتها. وهي نفسها التي تعتدي شرطتها علينا وعلى أحبابنا، في الشارع والبيت ومركز الشرطة والسجن، اعتداءً لفظيا وجسديا وجنسيا، وتعاملنا بشكلٍ مهينٍ لكرامتنا ومُمحٍ لإنسانيتنا. والدولة هي التي تحكم على أحبابنا بالإبعاد عنا بالسجن لسنوات طويلة مما يجعلنا في موقف صعب دون أحد نلجأ له ليحمينا. ومن ثم تجبرنا على الهرب واللجوء بعيدًا أكثر عن أحبابنا بعد سنوات من تعرضنا لعنفها ومخافة استمرار ذلك العنف.

 

والمجتمع هذا هو الذي لا يعترف بنضالنا من أجله كنساء، ليس بالشكل الكافي، على الأقل. هو الذي يشعرنا بالعار وبالذنب حين يتم الاعتداء علينا من قبل أي كان، رجل الشرطة أو أخينا أو أخو الشهيد، لا يهم، فنحن دائما من لم نأخذ احتياطاتنا ونحن الملامين أولا وأخيرا. هذا المجتمع هو الذي يعتقد أن لا ملكة لنا على أجسادنا كنساء، وأن له الحق في التحكم في طريقة لبسنا، ويعتقد أن طريقة لبسنا مبررٌ للاعتداء الجنسي علينا، ويعتقد أن ممارساتنا الجنسية التي نمارسها بحريتنا هي مبررٌ أيضًا للاعتداء علينا. هذا المجتمع هو الذي لا يتردد في شيطنتنا حينما لا نعيش حياتنا حسب القواعد والمعايير التي يضعها لنا. هذا المجتمع الذي لا يرى أي مشكلة في استخدام صورنا كأداة لابتزازنا. والمجتمع هذا هو الذي يستخدم احتمالية كوننا مخبرات كعذر قبيح للتستر على اغتصابنا، حتى حين نكون لاجئات ومحكومات غيابيا وزوجات معتقلين. 

لا أتكلم عن المجتمع كأنّي خارجه. فأنا منه وفيه، وأنا مسؤولة أيضًا. كلنا مسؤولون وليس المغتصب مسؤولا لوحده، حتى وإن اختلفت درجات وأشكال هذه المسؤولية. 

أعتقد أننا نستحق حماية من عنف الدولة والمجتمع معًا، لا أحدهما دون الآخر، وأننا نحتاج فكرًا وحراكًا سياسيًّا يرى أهمية مقاومتهما معًا دون التغاضي عن أحدهما خوفًا من الآخر. هذا ما يمكن للنسوية المقاومة للنظام والأبوية أن تسمح لنا بالقيام به.

قد لا نستطيع إسقاط النظام ولا الأبوية اليوم، ولكننا نستطيع أن نقوم بالعمل الذي سيؤدي إلى ذلك غدًا، لا العمل الذي يعيد إنتاج هذه الأنظمة. نستطيع أن نقاوم هذه الأنظمة وأن نسرد هذه المقاومة لنتذكرها ونتعلم منها. كما نستطيع أن نحاسب أنفسنا بشكل دائم ونسمح لمن نقوم بعملنا من أجله أن يحاسبنا من أجل أن نقوم بعملٍ أفضل. ونستطيع أن نسيّس عملنا النسوي وأن نعترف بأن السياسة جزء أساسي من هذا العمل، وأن لا عمل نسوي ما لم يكن سياسيا، وأن أي عمل نسوي خالٍ من السياسة هو عمل مشوه وناقص، وقد يكون مضرّا أيضا لأنه لا يحاسب كل من كان مسؤولا عن تعنيفنا لجندرنا وجنسانيتنا. لا أعلم إن كانت تبدو هذه مهمّة صعبة أو كبيرة، ولكن ما قد يسهلّها هو معرفتنا بأننا لا نحتاج أن نبدأ من الصفر. لدينا تاريخ من النضال والحراك المناهض للدولة من ضمنه حراك نسائي، لدينا نساء قامت في الماضي وتقوم الآن بممارسات من أجل النجاة والمقاومة في حياتهنّ اليومية وفي دوائرهنّ الخاصة، ولدينا حاليّا حراك نسوي وحراك مناهض للنظام، كما أن لدينا حراكات نسوية ومقاوِمة في المنطقة والعالم كله، في الماضي والحاضر. يمكننا أن نبني على كل هذا.

Share Button

هكذا أفضل

كتابة: سوسن الشريف

وصلتني رسالة في صندوق بريد فيسبوك من سيدة رفضت أن تعلن عن اسمها، وحسابها على صفحتها الخاصة يحمل حروفًا مكتوبة بشكل غريب لا يشير إلى اسم واضح، ولا يوجد لها أي صور شخصية. لم يكن رفضها الإفصاح عن معلومات أكثر عنها غليظًا، بل كان أقرب للرجاء أو التمني، قائلة أن اسمها لن يفيد أو يضر، تطلب فقط أن نتحدث عبر الماسنجر. 

لم أرد على الرسالة لعدم وضوح أي شيء عن صاحبتها، فأرسلت إليّ رسالة محملة بضيق ونفاد صبر، طالبة مني أن أخبرها صراحة برفضي أو قبولي، فكل ما ترغب به التحدث مع أحد لا يعرفها. وحسابي ظهر أمامها ضمن قائمة الأصدقاء المقترحين، فشعرت بارتياح لمظهري ولما أنشره، فقد اعتدت نشر خواطر يومية عن الأمل وتأمل الحياة، وصور لمناظر طبيعية، وصور ألتقطها لكل ما حولي عندما أقوم بجولة في الشارع، سواء الحدائق أو الأماكن الأثرية التاريخية، أو الأماكن التي لا يزورها الكثيرون كالصحراء والواحات وسيوة، وأتجنب العنف أو المنشورات المزعجة. قلت لها إنني لا أمانع في سماعها، لكن حسابها مريب وغير مطمئن. 

اتفقت معي في الرأي وأقسمت أنها سيدة، وبدأت تكتب لتروي لي حكايتها…

المرض يسري في كل جزء بجسدي، حرارتي مرتفعة، وأشعر بالدوار والضعف. أكتب إليكِ ببطء بقدر ومضات لحظات الصحو التي تنتابني. أنا في أوائل الخمسينيات، أعيش بمفردي، أفراد أسرتي ما بين مسافر أو يعيش في مكانٍ آخر، الجميع منشغل بحاله وأولاده. حاولت الاتصال بهم؛ بدا البعض مشغولًا، والبعض لا يجيب على الهاتف. أحاول شغل وقتي بكتابة أو إعادة نشر منشورات على الفيسبوك. أراهم موجودون، لكنهم لا يجيبون. قالوا لي مرارًا إنهم يطمئنون عليّ من منشوراتي.

ثم قالت، سأعود بعد قليل انتظريني من فضلك… عادت معتذرة تقول “عفوًا وصلات السعال لا تنتهي، مع الحرارة، أشعر أن روحي تنسحب مني ببطء، كم هذا مؤلم، مع الصداع، اااه لا أتحمل…” 

صرعني القلق عليها، سألتها عن حالتها بالتحديد، قرأت ما بين حروفي، وردت بكلمة واحدة “نعم”، هو ما تفكرين فيه. أخبرتها أن عليها التوجه إلى أقرب مستشفى أو تطلب الإسعاف أو رقم الطوارئ. كانت رسائلي تصل إليها بطيئة من شدة توتري، الحروف تتلعثم، لتصبح كلمات غير مفهومة، وأنا أسدي لها كل النصائح، وأسألها ثانية عن أهلها.

قاطعتني برسائل صوتية ضعيفة لأنها لم تعد قادرة على الكتابة، وترى كل مقترحاتي ساذجة، فقد أوضحت موقف أهلها المطمئن لمنشورات الفيسبوك. كانت تضغط على الحروف بوهن وهي تستمر في حكايتها وتقول “هكذا أفضل”، عشتُ أيام في حيرة وخوف لعدم قدرتي على طلب الإسعاف أو الطوارئ، بالتأكيد سأكون وحيدة، بجانب حزمة من المرضى لا يعرف عنهم أحد، غير معلوم مكانهم. وأنا بالفعل وحيدة ومريضة، أعيش في عزلة في منزلي، عزلة فرضتها عليّ ظروف الحياة وحيدة، وفي غنى عن المزيد منها.

طلبتُ منها الاطمئنان على احتياطاتها لعدم نقل العدوى، فقالت إنها ترتدي قفازًا كلما تعاملت مع عامل السوبر ماركت أو الصيدلية والبواب، لا يزورها أحد، ولم تعد قادرة على الخروج، ثم بدأ صوتها يتلاشى مع كثرة السعال وصعوبة التنفس. حاولتُ تهدئتها وقلت لها في محاولة يائسة أخيرة جاهدة لحثها على التفكير في احتمالات الشفاء، أن أملنا دائمًا كبير في رحمة الله بعباده. 

فردت علي ّبأن الله وحده رحيم، لكن عباده يحسبونها بالورقة والقلم، فالطب يرى أن أصحاب الأعمار الكبيرة الأكثر عرضة للموت، لا أعرف كيف سيتم تصنيفي! ففي العمل والزواج خرجت من حلبة السباق من زمن، وفي الشعور بالصحة والحيوية قبل الإصابة بالمرض. لم أشعر يومًا بفارق عمر حقيقي – بخلاف الأوراق الرسمية – عن فتاة في العشرينيات، لكن في وضعي الحالي! بالتأكيد سيكون إنقاذ من في العشرينات أفضل الفرص للنجاة. 

ريثما كنت أكتب لها الرد، فوجئت بوصول رسالة أخيرة “آسفة إني حملتك همي ومشاكلي، لكن كنت في حاجة للتحدث لأي أحد. شكرًا لاستماعك، خدي بالك من نفسك”.

قبل أن أجيب حظرتني على الفيسبوك والماسنجر. لا أعرف اسمها، ولا منطقة سكنها، أصحابها وصورها مختفية. حاولت أثناء الحديث البحث عن من علق أو أُعجب بمنشوراتها، لم أجد من يترك علامة أو أثر، وكأن مهمتها النشر، ومهمتهم المشاهدة في صمت. 

الصمت… ذلك الكفن الأخير للوحدة والمرض والعجز.

لا أعرف من منا يعاني العجز أكثر من الآخر! ها هي ألقت عليّ بصاعقة وتركتني ورحلت، ولا أعرف هل رحيلها سيكون فقط عن قائمة رسائلي، أم عن العالم، لا أعرف كيف أساعدها!

أو ربما ساعدتها في أنني استمعت إليها باهتمام، ربما لم تجدني عاجزة كما أجد نفسي لأنها وجدت كل ما تحتاج وتفتقد، وجدت من يستمع إليها ويهتم لأمرها ولو كان شخصًا غريبًا عنها، وربما يكون هذا جزء من علاجها. باتت عندها معرفة أكيدة أن هناك من سوف تستند إليه بكلماتها في أوقات الضعف، ستلغي الحظر، وتتحدث إلى من يجيب ويستمع، من سيكون قريب وبعيد بما يكفي بالنسبة إليها.

كثيرًا ما يكون الاستماع للآخر بإخلاص هو المساعدة الأكبر التي يحتاجها، والتي لا تُكلفنا الكثير من الوقت أو الجهد، فقط نؤكد له ونقول “أنا موجود وبجانبك وقتما تريد”.

Share Button

ما يدفعنا للحلم بالضي وقت العتمة

 

كتابة: أميرة موسى

* الرابع عشر من مارس 2020، الحكومة المصرية تفرض حظر التجول، ضمن خطتها لمواجهة فيروس كورونا (المسبب لمرض كوفيد 19)

مشهد نهار داخلي – الإسكندرية (حيث أعيش).


“هنرجع كلنا البيت النهارده” قرر أبي. بعدما أتى مع أمي وأختي – في زيارة لم يُبلغوني بها – قبل هذا التاريخ بأسبوع.

كانت مفردة  “كلنا” إشارة مقتضبة إلى أن عليّ الانصياع كجزء من هذا الكل.

سنعود بعد أسبوع.

كان وجود حرف “النون” كافٍ لأعرف أنني أُساق كنفرٍ من قطيع عائلة تحاول أن تبدو للعابرين كذلك، وأنه يسوق ذاته وأمي وأختي إلى حياتي، التي خرجوا منها ولم يخرجوا منذ خمس سنوات.

عزيزاتي،
هذا ليس درسا لشرح المعاني أو استيعاب كيف تؤدي اللغة دورا في السطو، لكن أسفل ذاك الحرف وتلك المفردة ترقد أصوات ودموع ودماء لمعارك لا يكفي معجم لشرحها. عادت أمي وأختي إلى بيت أبي. أما أنا فلم أعد إلى أي بيت، لا بيتي ولا بيته. علقت أجزائي على الأبواب. ولم أملك من القوة المادية ما يكفي للوقوف على أرض، أو العودة إلى بيت. بقيت بالأعلى أنتفض في مكاني دون أن يتهاوى جسدي، فقط روحي. لقنتنا الانتفاضات العامة والثورات الفردية في كل الدنيا، أن الرفض يلزمه عُدة وتجهيزات. لننشق ولا نمت، على الواحدة منا أن تملك ما يبقيها حية بكل ما تحمله الحياة من دروب، استوعبت الدرس وقبلتُ تعلمه. 

أواخر مايو 2020

مشهد ليل خارجي – المنيا


لا أتحدث إلى أي منهما، لا آكل في المنزل، فقط ألبي نداء الطبيعة وأفعل ما يشبه النوم أحيانا. انتهى الأسبوع، وزاد عليه عدد لم أعد أحصيه من الأسابيع. أيام كثيرة مضت وأنا أقضي بضع ساعات على سطح بيت صاحبتي “هاء”. في اللحظة الحالية، يبدو بالنسبة لي مثاليا أن أجلس إلى جانب تشابك أصابع “هاء” الكبيرة مع أصابع ابنة عمها الصغيرة. تلعبان وتضحكان، بينما أحدق في السماء التي تحمل نجوما لا يتسنى لي رؤيتها في المدن الكبرى. كما لا يتسنى لي الحظو بصمتٍ يغلفه لطف صوتٍ غير مزعج، كما هو الحال بالنسبة لصرخات العراك حين ينشب بين أناس في الشارع، أو صوت سيارات يصدح الكاسيت فيها بأغاني “المهرجانات”. كان صوت اللعب يوفر لي مؤنسا، دون أن أنبس أنا بكلمة واحدة. بالرغم من أني كثيرا ما أتحدث إلى الآخرين، مثل “هاء” وغيرها، بحيوية مرئية لهم لا لي. أقول كما لو أني لا أخفي شيئا، أشارك قصصا ومواقف كما لو أني أفرغ جعبتي من الحكي. أنفتحُ كما لو أني مطمئنة فعلا. يحتاج اللقاء إلى قدر من الذكاء الإنساني، لدفع الملل. يلزم الصُحبة حديثا متقدا بالحماسة والابتسامات، شيء يشبه الألق ولا يكونه في الحقيقة بحالتي الحالية. يكون نصفي الثاني كما يحتاج اللقاء ويلزمهم. ويكون نصفي الأول كما تتراءى لي حقيقة كلي؛ ساكتة. بين اثنتيهم مراضاة، أحاول الإمساك بشيء منها، ربما تهدأ الروح، وربما تقاوم أعاصير يعززها كل فعل يذكرني أني غريبة هنا.  

أعيش الآن مرحلة ما قبل المُضي. ولت أزمنة الأمل، الذي كان يدفعني لضخ الماء في الأرض التي ظننت أنها تجمعني بهم طوال عقدين من الزمن. في الأول لم أدرك أنني أسقي أرضا بور. في الثاني رفضت الإدراك، لأن الرغبة في أن نكون عائلة حقيقية كانت أكبر من كل الأذى، ولأن الحب بيننا كان مشوها والعلاقة مربكة على نحوٍ أعقد من قدرتي على فك طلاسم هذا النوع من الحب، واستبصار سم تجرعناه سويا.

أراني أتقدم داخل عقلي، في حين يرونني أتراجع خارج أعينهم. قلبي يستوحش المحيط ويفتقد الوجود، يوم كان بالأرض مكان ما يدعي بيتي. سقيته بعشرة أعوام من عمري، لينمو وأنمو معه. اليوم أصبح ماضيا، الوصول إليه لم يعد يستغرق نصف نهار، إنما يلزمه نصف عمر آخر. لست متأكدة من أني أملك نصف عمر حتى  أدفعه، ولست واثقة من جدوى الدفع المتواصل. الطرقات أطول، والخطوات أثقل، لكني أمشي… أهرول… أسقط… وأفعل كل ما يجدر بإنسان حقيقي أن يفعل.

منتصف يوليو 

مشهد نهار داخلي – بيته بالمنيا

هل تذكرنَ محادثتنا عن مشاعرنا تجاه الشجارات التي نخوضها مع عوائلنا، اليوم وجدت في إحدى الملفات شيئا دونته من وحي جِلسة جمعتنا في ديسمبر من العام الماضي، كتبت فيها: 

  ينساب صوت الذاكرة في عقلي باستمرار كما لو أنه خلفية موسيقى مارشال جنائزي. دون انقطاع، أفكر في سيل الأوامر التي لا أجيد التعامل معها بطريقة أخرى سوى الرفض العلني. رفض أوامرهم يسلمني إلى رفضهم لشخصي ككل. يعيد كلا منا إنتاج الرفض في صور لا يجمع بينها سواه، ويفرق بينها كل ما دونه من معايير وأنماط وقيم. 

أستشعر في كل لحظة استياء والدي مما أعلنه، واستياء أمي مما أخفيه. أخفيه ضجرا و إحباطا غالبا، وأحيانا خوفا من أن يؤدي البوح بنا إلى مسارات لا تتقاطع أبدًا، ولو حتى في نقطة التقاء لحظية كهدنة أو صالة مطار يلتقي فيها المشتتون… يتعانقون، تجمعهم أرض واحدة، يتنفسون نفس الهواء، ويجلسون على مقاعد الطاولة الدائرية نفسها. تهدأ حدة غربتهم في هذه اللحظات قبل أن يعودوا لشتاتهم مرة أخرى. خوفي من فقد نقطة التقاء لحظية يطغى الآن على رغبتي في أن يكون كلٌ منا نفسه تماما. 

لم أعد أملي أُذن أمي بالحكايات. لم أعد أشاركها الكثير من الأشياء لأن ما يروقها سماعه تغير، ولأن هذا التغيير غير مرحب به. علمني تنكيلهم بي في تجارب سابقة أن وضوحي خطأ يستحق عقابات لا تتسق مع بساطة غايتي من الوضوح، ومع الجهد الذي عليّ بذله لنيل أي من الغايات هذه. قولا واحدا يجمعون سويا “حديثي مرفوض”، الغريب أن صمتي أيضا مرفوض.
صرتُ كالراقصين على حبل رفيع، علي أن أؤدي رقصة دون أن أقطع الحبل، دون أن أَسقط أو أُسقِط أي مما حملت أوزاره وإن لم أرغب به. لابد أن يحدث ذلك دون أن أدعي أو أعوي بصوتِ عال أنني متعبة من القيام بكل هذه الأشياء المتناقضة معًا. في مكان ما عميق، ترقد رغبة في أن أطرح كل هذا أرضًا، وأطلق قدماي للريح في الاتجاه المعاكس لكل ما سبق”. 

 قرأت هذا في الوقت الذي أستعدُ فيه اليوم للانطلاق بعيدا. في الوقت الذي تُصَم أوامر أبي إلى هذا وتعليقات أمي على ذاك، أتخيل نفسي في مكان ثان. أفعل أشياء أحبها. يحيطني تفاهم ومحبة آخرين. بالرغم من غياب شواهد قدرتي على القيام بذلك، لكني أترقب. تذكرني هذه الحالة بإهداء دونته جميلة في مقدمة كتاب أهدتني إياه في بداية تعارفنا، وصفتني فيه بالحالمة. تعرفنَ أني لم أعد حالمة أبدا، لكن شعوري بأن آلية توقع الأسوء فقدت فاعليتها في جعلي أتنازل، فالواقع دائما يبرع في حمل الأسوأ والأسوأ، ولأني أتخيل أن فقداني للأمل وسقوطي في وحل الواقعية سيأتي على ما بقي من رغبتي في الحياة. شيئ آخر يدعوني للحِلم في هذه اللحظة، هو فشل محاولاتي للتعايش مع ما أرفضه منهم، وسعيي لخلق أرضية ما، من الأفعال الأولية كالطعام أو الإنصات إلى صوت غنوة نطرب لها معا. لأن ما ينقصهم ليس معرفة المحبوب والمكروه، أو ما يؤذي علاقتنا وما ينفعها، لكن الرغبة في فعل أدنى مجهود لتحقيق أي مما سبق. غالبا يدفعنا الفشل للإحباط، لكنه أحيانا يزج بنا نحو الحلم والرغبة في خلاص قريب. تتضح تفاصيل الحلم وتزداد رغبة الخلاص، كلما ارتفع صوت الأوامر واشتدت حِدة التعليقات ونمى الخراب، بحيث لم تعد مساحيق التجميل مجدية، أو إيهام النفس بحشو الهوة بأكلة أو غنوة.

أعتذر عن طول الرسالة، أعرف أن رسالة من هذا النوع لا تتماشى مع سرعة حقبتنا، لكن ما شجعني على إرسالها بهذا الشكل ثلاثة أشياء: أولا، معرفتي بأن ثلاثتنا ننتمي إلى التأني والاستفاضة وأشياء لا تشبعها رسائل قصيرة. ثانيا، أمنيتنا بتبادل الجوابات، لنعتبر نصوصنا كذلك. ثالثا، محاولتي مشاركتكن أحوالي في أوقات مختلفة بعد فترة صمت أطول من رسالتي. أتوق إلى أن أسمع منكما أيضا.

حُضني وقبلاتي

ميام 

Share Button

حين كشفت لي أزمة كورونا أن قيودي سببها المجتمع لا الوباء

كتابة: وفاء خيري 

بعدما انتهى الحظر شعرت بالأسى، أسى لا يعرف طعمه الكثيرون. كثيرون سعداء بعودة الحياة وصخبها من جديد. بعضهم سيذهب إلى المقاهي أو يسافر أو يشتري ملابس أو غيرها من متع الحياة التي اعتادوها. ورغم أن الخطر من الإصابة بالفيروس ما زال موجودًا، إلا أني أيضًا شعرت بالأسى، لأني في الحجر الصحي كنت أشعر بشكل من أشكال التضامن، حتى لو كان صوريا. كلنا في مركب واحد، وكلنا نعاني من نفس الأزمة رغم اختلاف التفاصيل. أما بعد الآن، فقد انتهى كل شيء، وعادت كل ريما لعادتها القديمة، في حين لا أجد أنا وكثيرات مثلي ما نفعله، إلا الاستمرار بحجرنا الأبدي الذي لن ينتهي إلا بالصدامات والمواجهة القاسية.

أنا الفتاة الصعيدية، التي تعيش في مستنقع الذكورية بأبشع صورها، كنت أظن منذ سنوات أن تلك هي أزمة فردية ومشكلتي وحدي ولا داعي لأن أتحدث عنها. بعدها فهمت وأدركت أن السلطة الأبوية والمجتمع الذكوري هم السبب في كل ما يحدث لي ولغيري من الفتيات، وأنه لا بد لنا من أن نتحدث ونثور ونكسر حاجز الصمت، ولو بشكل صوري. ولا أنكر سخطي على كل شيء وعلى ما أعيشه كل يوم، بسبب ذكورية الحياة والمجتمع والأهل والأصدقاء، بدءاً من رغبتي في أحلام لن تتحقق إلا بدفع ثمن باهظ. 

استمر الفيروس في الانتشار واستمرت حياتي في روتينها المعتاد. كنت أخرج أيامًا قليلة وللضرورة فقط،  وهذا يُشعرني بالأمان لأني بعيدة عن الخطر. جلست أراقب العالم من نافذة هاتفي الصغيرة أو من وراء الشاشات بشكل عام. شاهدت حفلا لفرقة كايروكي، ومرة حفلا للعسيلي في “شم النسيم”، وبعدهم بفترة شاهدت حفلا لإليسا يُبث أونلاين أيضًا. كنت مذهولة من كل ما يحدث ويجري في العالم… كل هؤلاء يهتمون بضجر الموجودين في منازلهم! أعرف تمامًا أن تلك الحفلات موجهة لفئة معينة، تحديدًا لمن كانوا يحضرونها بالأساس – وأنا لست من تلك الفئة إطلاقًا – الفئة التي ليست بالغنية فلديها رفاهية الذهاب لمثل هذه الحفلات أو غيرها، أو لا تعيش في بيئة نسوية تسمح لها بالذهاب لتلك الحفلات أصلاً. لا أُنكر أني في الأعماق، كنت أشعر ببعض الشماتة في آخرين، أقول لندعهم يشعروا بنا ونتركهم يتأملون كيف تعيش الكثير من الفتيات حبيساتٍ في بيوتهن، في مُدن مغلقة ومع أُسر أو أزواج لا يتهاونون في أي شيء يمكنه أن يُهدد “شرف العائلة”.

مرت ثلاثة أشهر منذ أن حزمت حقائبي وتركت سكني المشترك الذي قضيت فيه ليال طويلة، للعودة إلى منزلي، في مدينتي الصغيرة النامية. كانت تلك المرة الأولى التي أستقل فيها بعيدًا عن أهلي. حجزت تذكرة السفر وودعت كل شيء بتأنٍ، واستعدت ذاكرتي التي أعادتني ستة أشهر للوراء، منذ نزلت للمرة الأولى في حياتي إلى القاهرة، أنا الفتاة الجنوبية/الصعيدية، التي سافرت القاهرة لتدرس في إحدى المنح بالجامعة الأمريكية. كان سبب عودتي هو أن مشروع تخرجي لن يُناقش بسبب تداعيات فيروس كورونا المستجد، ولم يكن يفصلني عن موعد المناقشة النهائي سوى أسبوعين. كُنت قد قررت العودة إلى المنزل بعد مناقشة المشروع وانتهاء كل شيء كما وعدت أمي، لكن كان لكورونا رأي آخر، إذ وجدت أن كل الأحداث تتسارع وتيرتها، وخفت من أن يُفرَض حظر تجوال أو ما شابه، لذا قررت العودة قبل موعدي المحدد بأسبوعين. وقلت لا بأس، من الممكن أن تكون هذه فرصة أخرى للعودة إلى القاهرة وعيش الحياة من جديد. عدت إلى منزلي بعد ساعات طويلة من السفر، وبدأت أتأمل كل شيء، وأنظر إليه بعين مختلفة، أكثر سخطًا وتمردًا مما مضى. كان سفري للقاهرة أحد أحلام حياتي المؤجلة، وبحثى عن فرصة للعيش ورؤية الحياة بشكلها المختلف. خُضت حربًا ضروسًا مع الدنيا كلها لكي أسافر وألتحق بهذه المنحة. كانت الأشهر الستة التي قضيتها في القاهرة، والحروب التي خضتها مع نفسي أولًا ثم أهلي ثم العالم، بمثابة نقطة تحول في حياتي، وكان من المفترض أن أعود وأعيد التفكير في كل شيء، إلى أن تأتي فرصة أخرى أو أرى ما يمكنني فعله في حياتي لأخطو نحو الأمام. لكن كورونا أبى أن يكون لي خيار، وقرر بدلًا عني، ولم يكن هذا القرار يزعجني أو يضايقني، بل منحنى فرصة للسفر في وقت آخر. كانت عودتي ومكوثي في منزلنا رغبة من رغباتي، لم أكن قد استوعبت رتم الحياة السريع وكل ما مررت به دفعة واحدة بعد. أردت أن أستريح وأتأمل وأكتب وأحكي عن كل ما عشته، لذلك كان بقائي الدائم في المنزل أحد قرارتي التي صبت في مصلحتي ولم أضجر منها إلى الآن. بدأت في فعل كل الأشياء المؤجلة، مهام عملي المتراكمة، وكتبي التي تركتها لحين اتفرغ لها، وقائمة أفلامي، ومجموعة الأشياء التي اعتدت فعلها كي أطور من ذاتي.

 كانت أيامي الأولى بمثابة راحة وهدوء. ولا أنكر أنه تخللها كثير من الضيق بسبب كل ما رأيته من فقدان للحرية وشعور بالتقييد – حتى في أبسط الأشياء – بدءًا من الملابس وصوت ضحكتي ونظري بشعري من شرفة المنزل. كنت أعيش حياتي داخل حاسوبي المحمول وكتبي وأفلامي. أخذت أقرأ كثيرًا كثيرًا عن النسوية وحقوق المرأة، وعن الحياة غير العادلة بشكل مطلق. وخلال انغماسي في حياتي الذاتية، كنت أراقب صفحات صديقاتي على مواقع التواصل الاجتماعي. كنت أرى كل منهن تعبر عن خوفها بطريقتها، وتضجر وتتحدث عن مشاعرها الشخصية. إحداهن تقول “سننجو”، وأخريات يتبادلن روتينهن اليومي في الحجر الصحي، وأخريات يعبرن عن ذعرهن مما يحدث، وعدم قدرتهن على فعل أي شيء. كنت لا مبالية، فقط أنظر لهم بسخرية، وأقول كل هؤلاء – سواء كُن نساءًا أو رجالًا – لديهن حرية وأشياء يفتقدنها في حياتهن. أما أنا ومثيلاتي – وأنا مؤمنة بأننا كثيرات – للأسف لا يفرق كثيرًا روتيننا في الحجر الصحي عن الأيام العادية شيئًا، لأن إرادتنا وحريتنا مسلوبة من دون أن يأتي كورونا أصلًا. 

كانت المهام المتراكمة لدي كثيرة. ستة أشهر من الغياب ليست بالوقت القليل. بدأت أكتب كل ما أجّلته، فأنا أعمل كصحفية حرة. وعدت لتعلم دروس اللغة الإنجليزية التي بدأتها منذ شهور. كنت أشاهد أفلامًا ومسلسلات وأفكر متى ستنعم لي الدنيا بزيارة تلك البلدان والأماكن. لكن كان تفكيري بطريقة مختلفة هذه المرة، فأفكر ماذا يمكنني أن أفعل حتى أزور تلك البلاد؟ ويفصلني الواقع بصوت أمي التي تحدثني عن أمنياتها برؤية أطفالي وسعادتي الأبدية في بيت زوجي. يصدمني ذلك الصوت المتكرر، الذي لم يمل من ترديد تلك الأمنيات التي تصفعني دائمًا لأرض الواقع، وتسحبني من أحلامي اليقظة لتردني إلى العالم القاسي، الذي يقول لن تحققي أي شيء إلا وأنت مع زوجك، ولا سبيل للخروج من هذا المنزل إلا بالزواج، أي من سجن إلى سجن آخر.

كنت أرى أصدقاءً ينشرون صورهم وذكرياتهم التي يفتقدونها. بعضهم يفتقد صوت الطائرة، وإحداهن تفتقد الذهاب إلى البارات، وأنا هنا ما زلت أحلم باليوم الذي أنال فيه كافة حقوقي وأعيش الحياة برغبتي واختياراتي. أتابعهم بأسى وأغبطهم، وأفكر في حياتي التي لم يغيرها الحجر الصحي ولا كورونا، ولن ينتهي بؤسها إلا بانتهاء النظام الأبوي، وليس بانتهاء وباء يمكنه أن يفتك بالجميع، لكنه لن يقلل من طغيانهم أو تجبرهم على النساء.

رأيت فرصًا كثيرة واستثنائية تُقدَم لأول مرة بشكل افتراضي، لكن الغريب أنني لم أنجذب لتلك الأشياء رغم تقديري وحبي الكبير لهذه الفرص، إذ أنني عشت طوال عمري معتمدة على الورش والتدريبات الافتراضية، فما الذي تغير! مللت من الحياة التقليدية وروتيني العادي الذي يتعامل معه الأغلبية وكأنها فرصة ذهبية لقراءة كتبهم المؤجلة وإنجاز الكثير من المهام التي ستطورهم. وبرغبة صادقة أتمنى لو أشارك هؤلاء الجموع وأنضم إلى صفوفهم في الحديث عن إنجازاتي، وعدد الكتب التي قرأتها. لكن الحقيقة أن هذه هي حياتي العادية، وتلك الإنجازات هي جزء من روتين حياتي المعتاد ليس إلا. 

مرت الأيام وتغير روتيني بعض الشيء، لكنه تغير للأسوأ. كنت آخذ بعض الراحة، لكن حتى الراحة تلك لم تكن تخلو من ألم، فكنت أنام لأستيقظ على شجار كبير بين أخي وأمي – في أغلب الوقت عني – كون أخي لا يتقبل أن أخته أفضل منه، فيطيح بها بكل ما لديه من سلطة ذكورية يمدها له المجتمع بأكمله. كثيرًا ما بكيت وضجرت ورغبت في انتهاء كل هذا المُر، لكني أعرف أن كورونا ليس هو السبب في ظهور هذا كله ولن يتسبب في اختفائه، ولهذا أشعر بالأسى أكثر فأكثر على نفسي. 

أصبحت نظرتي للحياة أكثر عمقًا ونضجًا واتساعًا. أصبحت أقرأ كثيرًا وأرغب في أن أغير الكثير في حياتي، فأعمل وأقرأ وأكتب وأتعلم، وأنتظر الغد بعين نصف متفائلة لأرى ما الذي يمكن أن تخبئه لي الأيام. لم يشغلني كورونا كثيرًا في العملية بأسرها، ولم يشغلني كذلك ما أحاط به من إجراءات، كنت فقط أتابع الأخبار، ولا أنكر أنني أحيانًا كنت أخاف من تفشي الوباء الذي لا نعلم إلى أين سيصل، أو إلى أي مدى ستكون أضراره. لكن تفاصيل الحجر المنزلي والصمت والعزلة هي التي وحدت الأفكار والإحساس بعمق الأذى والضرر الواقع علينا كنساء من هذا المجتمع البطريركي القاسي. 

Share Button

الكورونا مافيهاش مرجلة(إنسانية الهلع وجندرية التظاهر)

 

كتابة: قسمة كاتول   

كاتبة من  أسوان

 

العزا منصوب تلت تيام وبشر من كل ملة
رجال فى الدفانة تسد عين الشمس
صواني الأكل مردومة فوق بعضها… نسوان قاعدة فى الحصيرة صوتهم يوصل لفين وفين 

عزا يشرف… اكفينا شر عزا من غير ناس

البكاء أنوثة والعزاء ذكوري

طقوس الموت في بلادي أهم من الموت نفسه

***

العزاء “من غير ناس” والرجال فى طقس الدفن “يتعدوا على الإيد”. لم ينصب عزاء، ولم يكن هناك معزين. توقف الناس عن ممارسة طقوس الموت، أو بالأحرى خافت من إقامتها، فالطقوس ممارسة اجتماعية، كل فئة لها دورها الذي يجب أن تؤديه بكامل التفاصيل. الرجال خلقوا للوقوف وحمل النعوش ونصب العزاء، والنساء للجلوس والولولة. طقوس الموت فى بلادي هي جندرية  الفعل والثقافة.

بدءا من إعلان الوفاة حتى “السنوية” وهي مرور سنة. بمناسبة السنة، هي لا يجب أن تمر كـ12 شهرا، بل يجب أن تكون تسعة أشهر، خوفا من أن يصاب أهل المتوفى  بشر جراء مواصلة الحزن 12 شهر متوالية، حسب القبيلة التي أنتمي إليها. هناك اتفاق ضمني على تقسيم الممارسات الطقسية للموت؛ الصرخة الأولى لإعلان الوفاة هي ممارسة أنثوية، إعداد “الحصيرة” – وهي مساحات العزاء – مساحة للنساء وأخرى للرجال. وكل فئة عليها إعداد ما يخصها من مساحة، فالنساء فى البيت (بيت العزاء) وجزء ضئيل من الشارع، والرجال فى الديوان/المندرة/الخيمة، وعلى أسوء تقدير الشارع على مساحته. روزنامة الحزن مقسمة إلى “التالتة” مرور ثلاثة أيام، وبعدها ينفض عزاء الرجال وتبقى “حصيرة” النساء. ثم “الخمستاشر” ما زلن النساء في حصيرتهن، ويقمن بتقديم بدعوة للجميع لحضور “ليلة الخمستاشر” وتناول الطعام والشراب. وبعدها “الأربعين”، وأخيرا “السنوية”. وهذه الروزنامة هي ممارسة أنثوية، والرجال دورهم هو تحمل التكلفة المادية لكل “ليلة”. هكذا ظلت طقوس الموت فى الجنوب.

لكن مع جائحة كورونا اختفت الأدوار، وانمحت الروزنامة والبكاء للجميع، والعزاء تم إلغاؤه!

ولم تكن هناك طقوس للموت، بل فقط موت جراء وباء على الجميع الوقاية والاحتراس منه. الممارسات الاجتماعية توقفت لأن المجتمع لم يكن أمامه سوى إنسانيته فقط، إنسانية غير ملتزمة بأدوار اجتماعية.

الممارسات الاجتماعية، كما أوضحت ايمي إس وراتون فى كتابها المعنون بـ “علم اجتماع النوع”، دورها الأساسي هو خلق التباين واللا مساواة بين الأفراد (إناث وذكور).
وعلى أساس تلك الممارسات الاجتماعية، يطالب الأفراد أن يكون سلوكهم فى إطار نسق هذه الممارسات. وأظن أن  الوسيلة الوحيدة – وربما السهلة والسريعة – للأفراد
هي التظاهر كلٌ حسب نوعه “البيولوجي”:

التظاهر بالصلابة في مقابل التظاهر بالهشاشة
التظاهر بعدم الاكتراث فى مقابل التظاهر بالحرص
التظاهر بالمعرفة في مقابل التظاهر بالجهل
التظاهر بالشجاعة فى مقابل التظاهر بالجبن

وهذا السياق الضخم والتراكمي من التظاهر خلق أنماطا، وعلى الجميع أن يلتزم بتنميطه

(النبي ما نزلت دمعة على أبوها، واقفة زي الحيطة)

(ياراجل  دا بكا على القبور وقت الدفانة، اتجرس والله)

(أنتي هتعرفي أكتر من أخوكي، بيقلك الجوامع مش هتقفل)

(والله يا راجل أمي بكت وخربت الدنيا، وحلفت إنى ما أروح الدفانة)

( ياراجل إية شغل الحسوكة بتاع النسوان دا، كل شوية هنغسل ايدينا)

***

الدكتور: قول آه 

المريض: ما يقول آه غير النسا

الدكتور: لأ دي آه بتاعت العيا 

المريض: آه

(مشهد من فيلم زوجة من باريس / إنتاج 1966)

________________

الهلع  لحظة كمية تقف عندها الثواني ويتجمد الزمن، وهنا نكف عن التظاهر ونتخلى عن كوننا “مناسبين” لنوعنا البيولوجي وفق نسق نوعنا الاجتماعي. لحظة لا يكن أمامنا سوى حقيقتنا مهما كانت، وليس أمامنا خيار فى إظهارها أو طمسها.

مشاهد للمواطنين (إناث وذكور) لحظة حدوث زلزال 1992 فى القاهرة، ترسخ في ذهني كجيل عاش هذه الكارثة الإنسانية، رغم وجودي في الجنوب. بشر يركضون فى الشوارع دون هدف سوى النجاة، عيون تزرف الدموع على الفقد وعلى التيه، قلة الحيلة طالت الجميع، بشر لا يفعلون سوى محاولات النجاة بأنفسهم وذويهم.

مشاهد أخرى لقطار الصعيد 2002. الجميع في انتظار أجساد أحباءهم. الجميع يقف على رصيف الفقد.

في حريق محطة مصر 2019، الجميع يحاولون الركض، الجميع يسعون لرصيف يعصمه من الموت. لأننا فى الهلع لا نملك خيار، ليس هناك أي فرص للتبرير أو الجمل المجانية، أو التظاهر بغير ما نحن عليه. ما نحن عليه هو بالضرورة حقيقتنا سواء تسر أو تغم، تناسب أو لا. التظاهر هو أن نكون مناسبين بأقصى قدرة على المناسبة؛ مناسبة كوننا رجال /نساء لسياقات اجتماعية غير إنسانية. فى حين أن السعي المضني لأن نكون مناسبين لا يخالف حقيقة كوننا غير مناسبين بالمرة.

________________________

في أنحاء الكوكب على مدار شهور، عاش الجميع حالة هلع تفشت أسرع وأقوى من كوفيد ١٩. هلع جعل الكل فى حالة ترقب. “هل سأكون أنا المصاب/ة القادم/ة؟” لحظة توحد كونية مفرطة ربما أعادت للكوكب إنسانيته… ربما.
أن ندرك فى لحظة كمية شديدة الوطأة أننا نقف على ذات الأرض، ونستنشق نفس الهواء، سواء المعقم أو المتخم بالفيروسات. ذات الأرض ونحن نفس البشر… بشر دون فروق لونية/عرقية /عمرية/دينية/جندرية. ليس هناك كفار ومؤمنين، ليس هناك سود وبيض، ليس هناك آسيويين وقوقاز. هنا تحديدا ليس هناك رجال ونساء.

لابس كمامة ويمشى (يكشح فى إيديه)، رد السلام على أبو أميرة وهو قاعد على البلكونة ساعة مغربية
وبيتكلم وهو لابس الكمامة 
  أبو أميرة ما سمعش بيقول إية،  فرد عليه بهزار زي عادته
“يا راجل نزل الكمامة مش سامع حاجة، متخافش أنا مش هعديك، أنا قاعد في البلكونة”

ضحكوا الاتنين وشال الراجل الكمامة وقاله
” إية يا راجل، كمان على آخر زمن نخاف من المرض! والله أنت اللي ما سامعين لك حس من يوم الكورونا. إية الدنيا خوفوك وقعدت في البيت؟ حتى عزا  الحاج  سلامة ولا حد شافك.
ضحك أبو أميرة  “أيوة يخوفوني، وأيوة أخاف. ليه أروح العزا هو فيه عزا أصلا!”  

“دي كورونا ، والكورونا مافيهاش مرجلة. كمان دي هنعمل فيها أفلام! الله يخف التقيلة بس”
ضحكا وردد الراجل “يزيح البلا من عنده.”
***


فى معايشة البشرية لجائحة كورونا، كف الجميع  عن التظاهر، كفوا عن السعي المضني ليكونوا مناسبين لتصنيفاتهم الجندرية.

كفت الممارسات الاجتماعية عن فرض سطوتها. الممارسات الوقائية هي فقط صاحبة الكلمة العليا. ولأنها – الممارسات الوقائية – نتاج علمي، والعلم سياق إنساني بحت، تنطبق كل قواعدها على الجميع، بل يجب على الجميع الالتزام بها. وأي تباين أو لا مساواة سيُلحقان ضررا بالجميع.

(خليكم في البيت)

(اغسلوا أيديكم بالماء والصابون)

(ارتدوا الكمامة) 

(حافظوا على التباعد وعدم الاختلاط)

(صلوا في رحالكم)

بمناسبة الكمامة، الهلع لم يعطل حتى أسواق المنتجات الجندرية عن إنتاج كمامة حريمي وكمامة رجالي، لأن الكمامة إحدي سياقات الممارسة الوقائية، وهذه الممارسة ليس بها حريمي ورجالي، لأن مواصفات صناعتها الكمية هي إنسانية بحتة.

الكمامة منتج علمي ليس له علاقة بالجندر، والوقاية والإجراءات الاحترازية ممارسات إنسانية على الجميع اتباعها، والوباء لا يملك سياق جندري، المرض إنساني، والقواعد تُطَبّق على الجميع. الرجال والنساء يقفون على نفس الأرض، ونسب أو احتمال الإصابة واحدة. ولم تطرح الممارسات الوقائية فى سياقها قواعدا للنساء وأخرى للرجال، أو منتج وقائي نسائي وآخر رجالي. منتج واحد للجميع.

__________________

“خليكم فى البيت”… إجراء وقائي شديد الصرامة، وهو اختبار لهشاشة العديد من الممارسات الاجتماعية شديدة التراكم، والتي رسخت عبر تراكمها هذا لأنثوية البيوت، وفي المقابل ذكورية الشوارع.

جندرية المساحات والأماكن لم تعد لها قيمة فى مقابل إنسانية المرض. ظلت الشوارع خاوية من الجميع، والبيوت قد اتسعت للكل. بعد انقضاء الجائحة، أظن أن الجميع لديه قصة يرويها. أظن أني سأروي قصتي ما بعد إلغاء الحظر وفتح المساحات بشكل جزئي. للمرة الأولى بعد انقضاء ثلاثة أشهر، أقرر المشي في شوارع مدينتي التي أحبها، وبدون كمامة. لا أدري هل الشوارع ثقيلة أم هي أقدامي!

زيارتي لصديقتي المقربة في بيتها، وكم الإجراءات التي اتخذتها وعلينا الالتزام بها قبل الدخول، أشعرتني بهشاشة الود فى مقابل قوة الهلع. صمت الناس في الميكروباص، لا أدري كأنهم لم يصبح لديهم شيء يقولونه، أم أن أفواههم المكممة هي من فضلت الصمت!

المحال إضاءتها مغبرة… الشوارع ضجيجها مكتوم.

في مقابل تجربتي مع الحظر – التي جعلتني ربما أعيد صياغة أفكار كثيرة بشأن حياتي –

تعد تجربتي مع إلغاء الحظر هي الأشد وطأة. وكأن إلغاء الحظر بالنسبة لي كما كتب ميلان كونديرا “كائن لا تحتمل خفته.”

ثلاثة أشهر من الحظر مرت بردا وسلاما، لكني الآن أعيش حالة من التشويش – وربما الغربة – في محاولة للتكيف مع ثقل التعايش.

        

Share Button

مشروع كتابي وبصري:  العالم بيتغير… ولّا أنا اللى بتغير

أمل حامد و سارة بانقا   

المشروع ده هو نتيجة مناقشة بين اتنين أصدقاء، ورحلتهم في أيام الكورانتين، وتشابه بعض المشاعر رغم اختلاف الرحلة.

١. العالم برة حدود سريري 

۲. هستيريا

   ٣. الذات والآخر

 

Share Button

من الأرشيف الشخصي للجائحة

كتابة: هند سالم

نسوية، ومديرة دار نشر هن elles

قالت لي ابنتي ذات العشرة أعوام بكل ثقة “سيضم كتاب التاريخ فصلا كاملا عن كورونا، سندرس كل الأحداث التي نمر بها”. ثم ابتسمت وأكملت “أخيرا سندرس أشياء تهمنا، أمور عشناها وشعرنا بها”. جُمانا لا تعرف أنها لن تدرس الجائحة في كتاب التاريخ والكتب المدرسية كما عاشتها. لم أخبرها أن الجائحة ستمر عبر الكتاب لتذكرنا بالأرقام الرسمية لعدد الإصابات والوفيات، ومآثر الدولة في احتواء الأزمة. لم أخبرها أن الأرشيف الرسمي لا يحفظ ذاكرتنا لأنها ذاكرة لا تعنيه كثيرا، وأنه أرشيف غير محايد، أرشيف يحاول صياغة الذاكرة التى يريدها… لكن أين ستقرأ ابنتي يومياتنا  وأرشيفنا الشخصي؟ صمتت جمانا وذهبت لتلعب وحدها، وتركت لي سؤالا مقلقا، ربما هذا ما دفعني إلى كتابة يوميات الجائحة لأترك لها شيئا تقرأه ويحفظ ذاكرتها ويصنعها. 

هذا الأرشيف لا يضم كل يومياتي أثناء الجائحة، فقد انتقيت أياما بعينها وجدتها هامة لأنه يتداخل فيها الشخصي بالعام، وتبرز التقاطعات بين السياسي  وحياة النساء. أما باقي اليوميات، فقد تركتها لجُمانا لتقرأها حينما يخيب ظنها بكتاب التاريخ الذي تنتظره. 

الأسابيع  الأولى للحجر المنزلي

تسير الأيام والعمل بشكل روتيني وعادي على الرغم من وجود أخبار حول فيروس كورونا الذي يصيب أعدادا كبيرة من البشر في العالم. لكننا في العمل نخطط لإقامة فعاليات نسوية بمناسبة اليوم العالمى للمرأة في الثامن من مارس، ويوم النساء المصريات في 16 مارس. تتوالى الأخبار حول الفيروس ووجوده في مصر، وفجأة ندرك الخطر ونتخذ قرارا بوقف كل الأنشطة لأجل غير مسمى، ويذهب كل منا لبيته لنواجه حياة لم نختبرها من قبل؛ حياة العزل المنزلي. فجأة يتوقف كل شيء، وتصبح الحياة غير قابلة للاستخدام، ويصبح الخوف هو اللاعب الأساسي في واقع مجهول. بدأت في تعليم ابنتي الخوف؛ الخوف من الشارع، من الناس، من التلامس، من كل شيء. أصبح الحضور البشري الذي يخفف عنا وينقذنا من وحدتنا هو الخطر لأنه قد يحمل معه ذلك العدو غير المرئي الذي قد يتسلل إلى أجسادنا ويصيبها بالعطب. ابتعدنا عن كل الأصدقاء والأقارب والأحباب، واستسلمنا لعزلة فرضها علينا الخوف، وتبنينا شعار أبلة فاهيتا “مش هنسلم مش هنبوس مش هننشر الفيروس”.

قدر من الدقيق يماثله قدر من الحليب مع بيضتين وقالب صغير من الزبدة، ومبشور قشر البرتقال مع مقدار محسوب من السكر. تُمزَج المقادير بصبر واعتناء، ثم يوضع هذا الخليط في فرن ساخن لتخرج  كيك البرتقال بعد نصف ساعة. هكذا قضيت معظم  أيام شهر مارس وأنا أصنع الكيك لأول مرة  في حياتي، فقبل الجائحة كنت اشتريه جاهزا، أو أشتري مسحوقا جاهزا يوضع في الصينية على عجل، مع قليل من التقليب وإضافة المكونات التي تذكرها الإرشادات على ظهر العلبة. هكذا صنعنا بهجتنا اليومية، كانت مهمة إعداد الطعام مهمة بها الكثير من المغامرة والتشويق والتحدي. سأتحدى نفسي اليوم وأصنع جلاش باللحم المفروم أو مكرونة بالبشاميل، أو طهي اللحم بالطريقة الفلانية. كنت أشعر بالابتهاج وأنا استخدم خيالي وحواسي لتحويل النيء إلى مطبوخ له قوام ومذاق ونكهة وشكل… وبدأت مرحلة الخلق الخاصة بي. نعم إنني أخلق شيئا جديدا من مواد أولية، مثل الإله الذي نفخ فى الطين فأصبح روحا. هكذا أنفخ في أعواد المكرونة والطماطم والبصل واللحم المفروم لتصبح بولونيز. 

كنسوية لم يكن طهي الطعام من أولوياتي، وكنت أراه مهمة مملة وبليدة لأنه مرتبط بالدور الرعائي الذي يقع على كاهل النساء، فى منظومة لتقسيم الأدوار تتحدد على أساس النوع الإجتماعي. لذا، تصبح مهمة إعداد الطعام – بالإضافة للمهام والأدوار الأخرى – ليست باليسيرة. إلا أنني حاولت معرفة الأسباب التاريخية التى جعلت من الطبخ مهمة لا تنال التقدير الكافي رغم أهميتها القصوى، نظرا لارتباطها باستمرار الحياة. ووقعت يدي على كتاب أظنه من المصادر الهامة في أنثروبولوجيا الطعام؛ “الطبخ في الحضارات القديمة” للكاتبة “كاثي ك. كوفمان”. يذكر الكتاب أنه بعد أن “قضى المماليك على الجيش الانكشاري، امتد الأمر ليشمل القضاء على ثقافة الطعام، إذ كان يحتل نظام الطبخ موقع المركز في جيش الانكشاريين. (تذكر معظم المصادر أن من قضى على الانكشاريين هو الجيش العثماني في عهد السلطان العثماني محمود الثاني). يصفهم الدكتور علي الوردي بقوله:”إنهم يعطون أهمية كبيرة للطبخ وتقديم الطعام. فهم مثلا يقدسون قدور الطبخ ولا يفارقونها حتى في أوقات الحرب، ويدافعون عنها دفاعا مستميتا، إذ هم يعتبرون ضياعها أثناء الحرب أكبر إهانة تلحق بهم، وهم إذا أرادوا إبداء عدم الرضا من أوامر رؤسائهم، قلبوا القدور أمام بيوتهم. ومن مظاهر اهتمامهم بالطبخ أن قائدهم الأعلى يسمونه “جوربجي باشي”- أي طباخ الحساء. ويقدم المؤرخون أرقاما مبالغا فيها حول المؤن ومواد الطبخ التي كانت ترافق الجيش الانكشاري في تحركاته. وحين قضى المماليك على الجيش الانكشاري، قضوا معهم على ثقافتهم المطبخية. فلم يعد الرئيس هو الطباخ الأكبر، بل القائد العسكري الأكبر، وصار الطباخ الأكبر هو رئيس الخدم. وتعززت هذه النظرة الازدرائية مع الاحتلال الإنجليزي لأغلب البلدان العربية، إذ نقل الإنجليز معهم كبار طباخيهم من الجيش الهندي المرافق لهم. وظلت النظرة الدونية تلازم فن الطبخ الحديث، إذ بقيت الوظيفة المطبخية متروكة للخدم والأميين.” ربما يُعد هذا أحد الأسباب التي جعلت من الطبخ أحد أدوار النوع الاجتماعي التي تلصق بالنساء، خاصة حينما لا تدخل في نطاق العمل مدفوع الأجر. 

اكتشفت خلال هذه الفترة كيف يمكن للنساء (باعتبار أن النساء فى أغلب البيوت هن اللاتي يقمن بمهمة الطبخ) أن يسكبن أنفاسهن في الطعام الذي يعدونه. وعلمت الرغبة في التقدير بإبداء الإعجاب عند تناول القضمة الأولى. لقد كنت محظوظة لأن أهلي يقدرون ما أقوم به، ولا يرونه دورا “طبيعيا” يجب القيام به، في حين تقوم نساء أخريات بإعداد أطباق أكثر صعوبة من التي أقوم بإعدادها ويلقين معاملة سيئة أو يقابل عملهن بلا مبالاة . 

أثناء استمتاعي بالطهي وقراءاتي حول الموضوع من منظور نسوي، كانت تتعالى أصوات الآلاف – وربما الملايين – من النساء فى كل أنحاء العالم طلبا للنجدة من العنف الأسري. وفي الوقت الذي أصنع فيه بهجتي، كانت معاناة النساء تتزايد لأنهن حبيسات مع  رجال معنفين. فلا يكاد يمر يوم دون أن نسمع صرخات النساء وهن يستنجدن لوقف العنف الموجه لهن، في وقت لا يجدن فيه أي ملجأ.  تحول الخوف من الفيروس إلى الخوف من الشريك، وأصبحت عبارة “لا أشعر بالأمان في المنزل، فماذا  يمكن أن أفعل؟” تتردد في كل الأرجاء. وتصبح عبارة “احم نفسك – خليك بالبيت” عبارة متناقضة، فالبيت ليس مكانا آمنا للكثير من النساء.

 لم يهبط العنف المنزلي على النساء كما هبط علينا “كوفيد 19″، فهناك احصائيات تؤكد أن 1 إلى 3 من نساء العالم تعرضن لعنف جسدي أو جنسي على الأقل لمرة واحدة في حياتهن، وغالبا ما يكون ذلك على يد شريكهن الحميم. إلا أن هذا العنف زاد بنسبة كبيرة جدا قد تقدر بخمس مرات أثناء أزمة كورونا، بسبب وجود الرجال الدائم في البيت إثر ظروف الحظر. كنت أتابع حكايات النساء المعنفات عبر وسائل الإعلام المختلفة، وأفكر في الأشياء التي يمكن أن تمنحهن البهجة في هذا الوقت العصيب.. لا شيء يمكن أن يمنح امرأة تُضرب وتُهان وتشعر بالإذلال أي شعور بالبهجة.

يونيو الحزين  (يوم ما سابت سارة الأرض وطلعت للسما)

استقيظت اليوم على خبر انتحار سارة حجازي. أول شيء التفت إليه كان تاريخ اليوم، وكأن عليّ أن أدون هذا التاريخ وأحفظه جيدا. كان هذا ما أقدمه لسارة، أن أحفظ تاريخ موتها. لم أكن أعرف سارة بشكل شخصي، لكنني كنت أتابعها، وأحببت شجاعتها حينما أعلنت اختلافها، كذلك تابعت الحملة الأمنية العنيفة وردود أفعال مؤسسات الدولة على أفراد مجتمع الميم بعد حفل “مشروع ليلى” الذي أُقيم في مصر عام 2017. وشاهدت يومها صورة سارة وهي ترفع علم الرينبو، وكان وجهها يشع فرحة واطمئنان لمستقبل ظنته آمن عليها وعلى كل شخص مختلف.

لا يمكنني هنا الكتابة عن حجم الكراهية والعنف الذي انتشر عبر السوشال ميديا حول أحقية سارة في الحصول على الجائزة الكبرى “دخول الجنة”، لأنه – بالتأكيد – ستصيب سارة ومن يسير على نفس النهج كل اللعنات الممكنة لأنهم/هن عارضوا/ن نظاما اجتماعيا – مصون كنظام أخلاقي ونظام للسعادة،” على حد تعبير سارة أحمد في كتابها “نسويات قاتلات للبهجة”. لكني سأكتب عن انتصار سارة حجازي؛ لقد قتلت سارة بهجة هذا المجتمع والتصورات المنسوجة حول ما يجب أن تكونه وتفعله وتشعر به. لم ترض بمقعدها على المائدة الذي أُعد لها. لقد قلبت سارة المائدة بمقاعدها على رأس من يجلسون عليها، لذا كان لابد من عقابها، بالحبس ثم النفي الاختياري، ثم الموت. على الرغم من كل هذا، لا يمكنني حساب المكسب والخسارة بالمعايير التقليدية. كان يمكن لسارة أن تعيش حياتها في الخفاء، لكنها قررت بكل شجاعة أن تعلن عن نفسها بصوت مرتفع، وأن تطلق سهامها في وجه كل الجدران المحيطة بها. لذا، أراها منتصرة ومبتسمة رغم القسوة التي غلفت عالمها. 

ظللت لأيام مشغولة بأشكال المقاومة الفردية والجماعية التي يمكن أن تنتج في ظل واقع يتسم بالانغلاق التام، وأمام سلطة تلعب لعبتها المعتادة ضد الأجساد التي لا تقبل أن تخضع للشبكة الانضباطية التي تُفرض عليها، وتضع النساء محل المساءلة والمراقبة المستمرين، حتى ونحن نعاني من وباء غير عادل بالمرة، خاصة مع النساء. هل يمكننا الانتصار على هذه السلطة دون أن نقدم حياتنا ثمنا لهذا؟ ألم يقل “ميشيل فوكو” إنه ما دامت هناك سلطة، توجد عُقد ومراكز للمقاومة تتناثر بكثير أو قليل من الكثافة فى الزمان والمكان؟ لا يمكنني الادعاء أني وصلت لإجابة أو  صياغة رؤية تفاؤلية ساذجة، لكني أعلم أن كتابة هذه اليوميات/الأرشيف الشخصي هي نوع من المقاومة وعدم الاستسلام، ربما تكون الأقل كثافة. لكن أراهن على أن هناك الكثير من النساء اللاتي يصنعن أشكال مقاومتهن الفردية التي تحمل ملامحهن وصبغتهن الشخصية، وأن هناك الكثيرات اللاتي يحققن انتصارات صغيرة يومية، تساعدهن على الإستمرار والبقاء. وربما يأتي اليوم الذي نفرض فيه مقاعدنا حول المائدة بكل عناد.

Share Button

مَرَضْ  

كتابة: راوية صادق

“أن أنتزع نفسي من كل تلك الكوابيس”

درية شفيق – المذكرات

   ألتقط عشوائيا ورقة أمام الكمبيوتر، إذ أستخدم دائما ظهر الورق المطبوع في تدريبات الكتابة. أنظر في ظهرها، فأجد صورة “فوتو كوبي” لقصيدة “ساعات قاتمة” (Heures Sombres) لدرية شفيق باللغة الفرنسية. عنوان ملائم تماما لتلك الساعات التي تلتهم معظم أيامي حاليا، منذ أن فرض كورونا أو كوفيد ١٩ عليّ التزام البيت والخروج فقط للضرورة القصوى؛ فأنا على وشك أن أصبح في الثامنة والستين وضغطي مرتفع.

   هل أنا “كويسة”؟ أتساءل مثلما كانت درية شفيق تقول لابنتها الصغرى جيهان عام ١٩٧٥، قبل انتحارها ببضعة أشهر، وبعد ١٨ سنة من مصادرة مجلتيها، بنت النيل والكتكوت، وفرض الإقامة الجبرية عليها. واختارت درية شفيق أن تستمر في إقامتها الجبرية بعد إلغائها، فهل العزلة الاختيارية تجعل المكان أقل أسراً من السجن؟ 

عندما بدأت الأخبار تصلني عن الجائحة لم أتابعها باهتمام، ولم آخذها على محمل الجد. أعتقد أن أغلب أعضاء دائرتي كانوا مثلي، إلى أن تم إلغاء حفل إطلاق وتوقيع رواية “مايليس دو كرانجال” (شفاء الأحياء).

هذا وضع مشابه لوضع درية بامتياز. في أي جانب منه؟ – تساءلت بحذر، فهي لم ترغب في عزل نفسها في البداية، ولم تكن هناك جائحة. ماذا فعلت خلال وباء الكوليرا العاشر الذي اجتاح مصر عام ١٩٤٧؟  

   أنا عموما مش كويسة، أنا بتعايش. قعدت فترة أدرب نفسي على التعامل مع الإجراءات الاحترازية ضد الفيروس. روتين يومي ينبغي متابعته بدقة، خاصة عند طلب مشتريات المنزل. كان لازم أحضر الكلور عشان أمسح أسطح المعلبات، ثم أغسل يدي بنفس الترتيب الذي أشارت إليه منظمة الصحة العالمية، ثم أعود لغسل الخضار. تنتابني الحيرة: مية ونقع في الخل أم دعك بالصابون؟ ثم أقرر في النهاية أن الصابون خطر وأكتفي باستخدام الخل. أكثر حاجة حيرتني كيفية التعامل مع الجبن الأبيض، لأنني لا أحب الجبن المعلب أفضل شراءه من اللبان، إلى أن اقتنعت بأن أنزع التغليف وأضعه في “كونتينير” نظيف، ثم أغسل يدي. أستريح قليلا ثم أمسح الصالة بالكلور وأرش الكلور أمام الباب وعلى الجرس. استنزاف عصبي 🙁 .  

 

أرشيف*

دانتي!

هل يمكن

لجحيمك

أن يساوي جحيمي؟

تعال

اهبط معي

درج اليأس

انظر

وقارن!

قطع

موت عرفان خان يوم الأربعاء ٢٩ أبريل – أي بعد ٤٩ يوم من عزل نفسي في البيت كإجراء احترازي – جعلني أعود للفرجة على بعض أفلامه. كانت عودة لآنية ما قبل كورونا. ولأن بعض الأفلام تُنعش الروح، عجبني فيلمه “علبة الغذاء” (The Lunch Box).

دانتي”

قارن جحيمك

– (ذا الجراح المرئية) –

بهذا التعذيب

تشغلني هذه الجملة أو الفكرة، فهي تفترض صحة المقارنة وإمكانية قياس أشياء متخيلة (مثل الجحيم) بأخرى محسوسة وإن كان وقعها مادي ومعنوي. أسرح في دلالات الجحيم (الذي هو بالنسبة لي الآن الرطوبة والحر)، والتعذيب الذي تتدرج مستوياته وتتصاعد دائما نحو مستويات غير مسبوقة.

كلمات

فقد

الشارع

شباك

مرض

 

معاني

أصابته جائحة: بَلِيَّة- تَهْلُكَة- دَاهِية.l

العزلة: الانعزال:الابتعاد عن الآخرين، وحدة، انقطاع عن العالم

   يستخدم مخرجو فيلم “الخندق الدائم” (The Endless Trench) الكلمة كمدخل لفصول فيلمهم. تابعته بشغف وتأثر. أنا أشاهد أغلب الأحداث بعيون الزوج “هيجِنيو” الذي اختبأ في خندق بمنزله خلال الحرب الأهلية في إسبانيا، واستمر يعيش فيه رغم قرار حكومة فرانكو بالعفو عن جميع السياسيين.

أتخيل أنني أعيش في خندق مثل “هيجنيو”. أتخيل أنني سجينة مثل أبي السياسي في الفترة بين عامي 1959-1964. أتخيل أنني منفية في شقة بالدور السادس مثل درية. أتنقَّل بين الأفلام والروايات، وأتصفح سريعا الأخبار على الإنترنت كأنها مثل هذا الفراغ الذي لا يكاد يُرى، الذي يطل منه “هيجِنيو” على يوميات منزله.

أرشيف*

“عانيت بعضا من نكسة

وأنا حبيسة جدران

ليست من حجر

لكنها أشد وطأة”.

* مقاطع من أشعار درية شفيق، من كتاب “مع دانتي في الجحيم” ( قيد النشر، المركز القومي للترجمة). هي مقتطفات من قصائد كتبتها درية خلال السبعينيات. مقتطفات متناثرة مثل تناثر الانفعالات والمشاعر التي أشعر بها، في هذا العزل الذي فرضته على نفسي بسبب جائحة كورونا.

Share Button

جوابات مفتوحة

جلسنا في غرف مغلقة، في عزلة، جائحة عالمية، حدث كوني.  الأحداث الكونية محددة أيضا بتجاربنا كنساء…

كنسويات في العزلة والغرف المغلقة، كان لتجارب النساء خصوصيتها. لذا فالنصوص والكتابات التالية هي استجابة لدعوة أطلقتها مجموعة “اختيار” في يونيو 2020 كمحاولة لخلق مساحة مفتوحة وخفيفة للتدوين حول تيمة “كوفيد” والأفكار التي علقنا معها في عزلتنا الخاصة والعامة خلال العام. هي دعوة مفتوحة لتوثيق مشاعر وأفكار وضيق وصراعات سياسية.

جائتنا أشكالا مختلفة من الحكي والسرد – سواء مكتوب أو بصري –  تحمل العديد من الهموم والأفكار المتقاطعة في وقت “كوفيد”. وتنقل المساهمات هذه الأفكار في محاولة للتواصل وكسر العزلة، وخلق حالة من الدعم حول الفترة السابقة والحالية، ليس فقط من عدسة الهم العام وخطر الفيروس، لكن أيضا ما يرتبط بالظروف الحياتية التي كشفت العزلة والخوف مدى هشاشتها. 

سوف تستمر المساحة في استقبال وتجميع وتوثيق كل المواضيع المختلفة المتعلقة بالوقت الحالي، لنستكشف معا ما يعنيه العام والخاص، والشخصي والسياسي، فعليا في حيواتنا اليومية. 

(PDF) لتحميل وقراءة الإصدارة كاملة

مَرَضْ – راوية صادق 

من الأرشيف الشخصي للجائحة – هند سالم

مشروع كتابي وبصري:  العالم بيتغير… ولّا أنا اللى بتغير -أمل حامد / سارة بانقا 

حين كشفت لي أزمة كورونا أن قيودي سببها المجتمع لا الوباء – وفاء خيري 

الكورونا مافيهاش مرجلة   : إنسانية الهلع وجندرية التظاهر – قسمة كاتول 

ما يدفعنا للحلم بالضي وقت العتمة –  أميرة موسى

هكذا أفضل –  سوسن الشريف 

أن تكوني أما مغتربة في زمن الكورونا

أحارب لأجل مساحتي الخضراء

الصداقة على الإنترنت كسلاح لمواجهة العالم القاسي

هَرَب // وَهَن

Share Button

لمن تكتبين؟ كولاج

لمن تكتبين؟  PDF 

ترجمة : سماح جعفر 

 نشر النص الأصلي في إصدارة الحكمة المشؤومة العدد 13 (ربيع 1980)

 

أكتب لمن تشعرن بفرادة مشاعرهن. أكتب أيضًا لصديقاتي، حبيباتي والغريبات. الآن تحديدًا أكتب لنفسي. 

– ستيفاني بيرد

“جمهوري” في الأغْلب من النساء، النساء اللاتي يُعَرِفن أنفسهن كنسويات، لكن أيضًا النساء اللواتي يستجبن لليهودية أو تجربة الضواحي في عملي. أخيرًا، أكتب لنفسي، من رغبة في الاشتباك مع أختي، صديقاتي، حبيبتي، عملي. رغم ثقتي أنني أريد لعملي أن يصل إلى أبعد من آلتي الكاتبة.

– روبين بيكر

كنت دائمًا أكتب لنفسي في الأساس، حياتي سَعْي لفهم وضع لا معنى له، حياة قَيْد بطريركية الفتى الأبيض. حين بدأت بكتابة مذكراتي خلال سنتي الجامعية الأوليين، كنت أخلق صوتًا مَفْهومًا بشكل أفضل إلى حد ما من الفوضى المدمرة حولي.

أكتب للنساء السود الأخريات اللواتي عرفن الفوضى التي أتحدث عنها من المصدر، وناضلن بطرق جميلة لتغييرها. أكتب أيضًا للنساء السود في أسرتي اللاتي ربينني ولم تتح لهن فرصة الكتابة بأنفسهن. رغم أنني أعرف أنهن لن يوافقن بالضرورة على ما أكتبه، إلا أنني متأكدة من أنهن سيشعرن بالفخر لأنني كاتبة.

– باربرا سميث

أكتب لنفسي بعد خمس سنوات من الآن، كحارسة نقدية للصور الرنانة والتصريحات العامة الجذابة التي لن تعني لي شيئًا لاحقًا. تقول أمي بحزن، “أتمنى أن تكتبي كتابًا واحدًا يمكنني تقديمه لصديقاتي”. أظن أن قارئتي المثالية هي تلك التي قدمت كتبي بالفعل لصديقاتها. ليس لدي طموح لأن أصير مقبولة اجتماعيًا أو أكثر صوابية سياسية لأن وظيفة الخيال هي التعامل مع ما هو عليه وليس ما يجب أن يكون.

– جين رول

أكتب لكل من يختار قراءة عملي. أفعل ذلك على أمل أن الرسالة التي أحاول نقلها – لأن هناك رسالة دائمًا – ستظهر بوضوح، وتجعل القراء يفكرون بشكل إدراكي أكثر، يحاولون استهلال التغييرات، يتعلمون قبول الأعراق المختلفة، وكذلك الأفراد ضِمْنهم.

– آن ألين شوكلي

“لو أن الرب قطة فضوليّة خضراء – عندها سترى ما تراه” 1. أكتب لأجل قطة فضوليّة خضراء، أفكر، أكتب لجزء من الذات. وبما أنّ الكلمات يمكن تلقيها من خلال أجزاء مختلفة، أخاطب جزءًا معينًا من الذات – حتى لو كنت غاضبة، مُحْتجة أو ما إلى ذلك – ذات أكْثَر نقاءً، أكْثَر صدقًا، أكْثَر وعيًا أو واعية بشكل حساس. أنا متأكدة أنه – وبالكتابة للذات – فأنا لا أكتب للنساء فقط. لكن لو كتبت للرجال فلن يكون ذلك بغرض إرضائهم.

– جين غابن

أشعر بأنني أعرف ريني فيفيان مَلِيًّا عبر شِعرها، وبأنيَّ مُلْزَمة بمحاولة ترجمة عملها بشكل جيد قدر الإمكان. أقوم بذلك لأجلها ولأجل المثليات اللاتي لا يقرأن الفرنسية، ولأي شخص آخر يستمتع بالشعر الحُلْو.

– مارغريت آي. بورتر

منذ وقت طويل حذرنا أستاذ لغة انجليزية من التفكير بجدية في امتهان الكتابة ما لم نشته الأمر بقدر اشتهائنا الطعام والنوم. هاه! أشتهي الأمر بقدر اشتهائي للكَنْس. بصراحة، لم أخطط أبدًا لأن أصبح كاتبة، لكنني لم أخطط لأن أصبح مثلية أيضًا، لذلك من المثير للاهتمام أن أحد الأمرين تَبْع الآخر. أنا كاتبة لأنني مثلية.

– روث بيتز

أكتب الآن لنفسي ولأخواتي. لو أن بإمكان القليل من الرجال سماع ما أكتب، سيسعدني ذلك. لمَ لا زلت أتحدث للرجال أصلًا؟ (كما في كتابي للحوارات، “تَذَكُر من نحن”). لأنهم أحيانًا يطرحون عليَّ أسئلة أريد أن أعرف إجاباتي عليها. ولأنني أصر على الاعتقاد بأن هناك “امرأة شبحية داخل كل رجل” (كما كتبت أدريان ريتش ذات مرة، رغم أنها تشكك في المصطلح الآن). شبح لا يؤمن به معظم الرجال بالطبع. لكن عندما يبدو لي أن الشبح يظهر، أتحدث معه.

– باربرا ديمينغ

أكتب لأعضاء آخرين من مختلف الجماعات المضطهدة التي أتجانس معها. أكتب للنساء بالأساس. ربما بعض كتاباتي أيضًا للرجال المثليين. بين النساء، الكثير من كتاباتي مخصصة للمثليات، وبعضها للنساء السود، والبعض الآخر للمثليات السود على وجه التحديد. أحيانًا أكتب قصيدة لشخص آخر. وبالطبع أكتب لي أيضًا. لا أمانع أن يقرأني أناس لا ينتسبون للجماعات المضطهدة التي أكتب لأجلها، لكن سيتعين عليهم بذل الجهد. أنا لست معنية جدًا بمحاولة زيادة وعيهم بقدر اهتمامي بتوفير مادة لنا، لأجل ثقافتنا، لأجل اسْتِحْداثنا لواقع مثلي نسوي.

– بيكي بيرثا

أكتب للمرأة التي بعثت إليًّ برسالة تقول، “قصائدك تجعلني أعمل بجد، لكنها دائمًا تستحق ذلك”.

– سوزان وود طومبسون

 روي الجذور 

Share Button