المشروع ده هو نتيجة مناقشة بين اتنين أصدقاء، ورحلتهم في أيام الكورانتين، وتشابه بعض المشاعر رغم اختلاف الرحلة.
المشروع ده هو نتيجة مناقشة بين اتنين أصدقاء، ورحلتهم في أيام الكورانتين، وتشابه بعض المشاعر رغم اختلاف الرحلة.
كتابة: هند سالم
نسوية، ومديرة دار نشر هن elles
قالت لي ابنتي ذات العشرة أعوام بكل ثقة “سيضم كتاب التاريخ فصلا كاملا عن كورونا، سندرس كل الأحداث التي نمر بها”. ثم ابتسمت وأكملت “أخيرا سندرس أشياء تهمنا، أمور عشناها وشعرنا بها”. جُمانا لا تعرف أنها لن تدرس الجائحة في كتاب التاريخ والكتب المدرسية كما عاشتها. لم أخبرها أن الجائحة ستمر عبر الكتاب لتذكرنا بالأرقام الرسمية لعدد الإصابات والوفيات، ومآثر الدولة في احتواء الأزمة. لم أخبرها أن الأرشيف الرسمي لا يحفظ ذاكرتنا لأنها ذاكرة لا تعنيه كثيرا، وأنه أرشيف غير محايد، أرشيف يحاول صياغة الذاكرة التى يريدها… لكن أين ستقرأ ابنتي يومياتنا وأرشيفنا الشخصي؟ صمتت جمانا وذهبت لتلعب وحدها، وتركت لي سؤالا مقلقا، ربما هذا ما دفعني إلى كتابة يوميات الجائحة لأترك لها شيئا تقرأه ويحفظ ذاكرتها ويصنعها.
هذا الأرشيف لا يضم كل يومياتي أثناء الجائحة، فقد انتقيت أياما بعينها وجدتها هامة لأنه يتداخل فيها الشخصي بالعام، وتبرز التقاطعات بين السياسي وحياة النساء. أما باقي اليوميات، فقد تركتها لجُمانا لتقرأها حينما يخيب ظنها بكتاب التاريخ الذي تنتظره.
الأسابيع الأولى للحجر المنزلي
تسير الأيام والعمل بشكل روتيني وعادي على الرغم من وجود أخبار حول فيروس كورونا الذي يصيب أعدادا كبيرة من البشر في العالم. لكننا في العمل نخطط لإقامة فعاليات نسوية بمناسبة اليوم العالمى للمرأة في الثامن من مارس، ويوم النساء المصريات في 16 مارس. تتوالى الأخبار حول الفيروس ووجوده في مصر، وفجأة ندرك الخطر ونتخذ قرارا بوقف كل الأنشطة لأجل غير مسمى، ويذهب كل منا لبيته لنواجه حياة لم نختبرها من قبل؛ حياة العزل المنزلي. فجأة يتوقف كل شيء، وتصبح الحياة غير قابلة للاستخدام، ويصبح الخوف هو اللاعب الأساسي في واقع مجهول. بدأت في تعليم ابنتي الخوف؛ الخوف من الشارع، من الناس، من التلامس، من كل شيء. أصبح الحضور البشري الذي يخفف عنا وينقذنا من وحدتنا هو الخطر لأنه قد يحمل معه ذلك العدو غير المرئي الذي قد يتسلل إلى أجسادنا ويصيبها بالعطب. ابتعدنا عن كل الأصدقاء والأقارب والأحباب، واستسلمنا لعزلة فرضها علينا الخوف، وتبنينا شعار أبلة فاهيتا “مش هنسلم مش هنبوس مش هننشر الفيروس”.
قدر من الدقيق يماثله قدر من الحليب مع بيضتين وقالب صغير من الزبدة، ومبشور قشر البرتقال مع مقدار محسوب من السكر. تُمزَج المقادير بصبر واعتناء، ثم يوضع هذا الخليط في فرن ساخن لتخرج كيك البرتقال بعد نصف ساعة. هكذا قضيت معظم أيام شهر مارس وأنا أصنع الكيك لأول مرة في حياتي، فقبل الجائحة كنت اشتريه جاهزا، أو أشتري مسحوقا جاهزا يوضع في الصينية على عجل، مع قليل من التقليب وإضافة المكونات التي تذكرها الإرشادات على ظهر العلبة. هكذا صنعنا بهجتنا اليومية، كانت مهمة إعداد الطعام مهمة بها الكثير من المغامرة والتشويق والتحدي. سأتحدى نفسي اليوم وأصنع جلاش باللحم المفروم أو مكرونة بالبشاميل، أو طهي اللحم بالطريقة الفلانية. كنت أشعر بالابتهاج وأنا استخدم خيالي وحواسي لتحويل النيء إلى مطبوخ له قوام ومذاق ونكهة وشكل… وبدأت مرحلة الخلق الخاصة بي. نعم إنني أخلق شيئا جديدا من مواد أولية، مثل الإله الذي نفخ فى الطين فأصبح روحا. هكذا أنفخ في أعواد المكرونة والطماطم والبصل واللحم المفروم لتصبح بولونيز.
كنسوية لم يكن طهي الطعام من أولوياتي، وكنت أراه مهمة مملة وبليدة لأنه مرتبط بالدور الرعائي الذي يقع على كاهل النساء، فى منظومة لتقسيم الأدوار تتحدد على أساس النوع الإجتماعي. لذا، تصبح مهمة إعداد الطعام – بالإضافة للمهام والأدوار الأخرى – ليست باليسيرة. إلا أنني حاولت معرفة الأسباب التاريخية التى جعلت من الطبخ مهمة لا تنال التقدير الكافي رغم أهميتها القصوى، نظرا لارتباطها باستمرار الحياة. ووقعت يدي على كتاب أظنه من المصادر الهامة في أنثروبولوجيا الطعام؛ “الطبخ في الحضارات القديمة” للكاتبة “كاثي ك. كوفمان”. يذكر الكتاب أنه بعد أن “قضى المماليك على الجيش الانكشاري، امتد الأمر ليشمل القضاء على ثقافة الطعام، إذ كان يحتل نظام الطبخ موقع المركز في جيش الانكشاريين. (تذكر معظم المصادر أن من قضى على الانكشاريين هو الجيش العثماني في عهد السلطان العثماني محمود الثاني). يصفهم الدكتور علي الوردي بقوله:”إنهم يعطون أهمية كبيرة للطبخ وتقديم الطعام. فهم مثلا يقدسون قدور الطبخ ولا يفارقونها حتى في أوقات الحرب، ويدافعون عنها دفاعا مستميتا، إذ هم يعتبرون ضياعها أثناء الحرب أكبر إهانة تلحق بهم، وهم إذا أرادوا إبداء عدم الرضا من أوامر رؤسائهم، قلبوا القدور أمام بيوتهم. ومن مظاهر اهتمامهم بالطبخ أن قائدهم الأعلى يسمونه “جوربجي باشي”- أي طباخ الحساء. ويقدم المؤرخون أرقاما مبالغا فيها حول المؤن ومواد الطبخ التي كانت ترافق الجيش الانكشاري في تحركاته. وحين قضى المماليك على الجيش الانكشاري، قضوا معهم على ثقافتهم المطبخية. فلم يعد الرئيس هو الطباخ الأكبر، بل القائد العسكري الأكبر، وصار الطباخ الأكبر هو رئيس الخدم. وتعززت هذه النظرة الازدرائية مع الاحتلال الإنجليزي لأغلب البلدان العربية، إذ نقل الإنجليز معهم كبار طباخيهم من الجيش الهندي المرافق لهم. وظلت النظرة الدونية تلازم فن الطبخ الحديث، إذ بقيت الوظيفة المطبخية متروكة للخدم والأميين.” ربما يُعد هذا أحد الأسباب التي جعلت من الطبخ أحد أدوار النوع الاجتماعي التي تلصق بالنساء، خاصة حينما لا تدخل في نطاق العمل مدفوع الأجر.
اكتشفت خلال هذه الفترة كيف يمكن للنساء (باعتبار أن النساء فى أغلب البيوت هن اللاتي يقمن بمهمة الطبخ) أن يسكبن أنفاسهن في الطعام الذي يعدونه. وعلمت الرغبة في التقدير بإبداء الإعجاب عند تناول القضمة الأولى. لقد كنت محظوظة لأن أهلي يقدرون ما أقوم به، ولا يرونه دورا “طبيعيا” يجب القيام به، في حين تقوم نساء أخريات بإعداد أطباق أكثر صعوبة من التي أقوم بإعدادها ويلقين معاملة سيئة أو يقابل عملهن بلا مبالاة .
أثناء استمتاعي بالطهي وقراءاتي حول الموضوع من منظور نسوي، كانت تتعالى أصوات الآلاف – وربما الملايين – من النساء فى كل أنحاء العالم طلبا للنجدة من العنف الأسري. وفي الوقت الذي أصنع فيه بهجتي، كانت معاناة النساء تتزايد لأنهن حبيسات مع رجال معنفين. فلا يكاد يمر يوم دون أن نسمع صرخات النساء وهن يستنجدن لوقف العنف الموجه لهن، في وقت لا يجدن فيه أي ملجأ. تحول الخوف من الفيروس إلى الخوف من الشريك، وأصبحت عبارة “لا أشعر بالأمان في المنزل، فماذا يمكن أن أفعل؟” تتردد في كل الأرجاء. وتصبح عبارة “احم نفسك – خليك بالبيت” عبارة متناقضة، فالبيت ليس مكانا آمنا للكثير من النساء.
لم يهبط العنف المنزلي على النساء كما هبط علينا “كوفيد 19″، فهناك احصائيات تؤكد أن 1 إلى 3 من نساء العالم تعرضن لعنف جسدي أو جنسي على الأقل لمرة واحدة في حياتهن، وغالبا ما يكون ذلك على يد شريكهن الحميم. إلا أن هذا العنف زاد بنسبة كبيرة جدا قد تقدر بخمس مرات أثناء أزمة كورونا، بسبب وجود الرجال الدائم في البيت إثر ظروف الحظر. كنت أتابع حكايات النساء المعنفات عبر وسائل الإعلام المختلفة، وأفكر في الأشياء التي يمكن أن تمنحهن البهجة في هذا الوقت العصيب.. لا شيء يمكن أن يمنح امرأة تُضرب وتُهان وتشعر بالإذلال أي شعور بالبهجة.
يونيو الحزين (يوم ما سابت سارة الأرض وطلعت للسما)
استقيظت اليوم على خبر انتحار سارة حجازي. أول شيء التفت إليه كان تاريخ اليوم، وكأن عليّ أن أدون هذا التاريخ وأحفظه جيدا. كان هذا ما أقدمه لسارة، أن أحفظ تاريخ موتها. لم أكن أعرف سارة بشكل شخصي، لكنني كنت أتابعها، وأحببت شجاعتها حينما أعلنت اختلافها، كذلك تابعت الحملة الأمنية العنيفة وردود أفعال مؤسسات الدولة على أفراد مجتمع الميم بعد حفل “مشروع ليلى” الذي أُقيم في مصر عام 2017. وشاهدت يومها صورة سارة وهي ترفع علم الرينبو، وكان وجهها يشع فرحة واطمئنان لمستقبل ظنته آمن عليها وعلى كل شخص مختلف.
لا يمكنني هنا الكتابة عن حجم الكراهية والعنف الذي انتشر عبر السوشال ميديا حول أحقية سارة في الحصول على الجائزة الكبرى “دخول الجنة”، لأنه – بالتأكيد – ستصيب سارة ومن يسير على نفس النهج كل اللعنات الممكنة لأنهم/هن عارضوا/ن نظاما اجتماعيا – مصون كنظام أخلاقي ونظام للسعادة،” على حد تعبير سارة أحمد في كتابها “نسويات قاتلات للبهجة”. لكني سأكتب عن انتصار سارة حجازي؛ لقد قتلت سارة بهجة هذا المجتمع والتصورات المنسوجة حول ما يجب أن تكونه وتفعله وتشعر به. لم ترض بمقعدها على المائدة الذي أُعد لها. لقد قلبت سارة المائدة بمقاعدها على رأس من يجلسون عليها، لذا كان لابد من عقابها، بالحبس ثم النفي الاختياري، ثم الموت. على الرغم من كل هذا، لا يمكنني حساب المكسب والخسارة بالمعايير التقليدية. كان يمكن لسارة أن تعيش حياتها في الخفاء، لكنها قررت بكل شجاعة أن تعلن عن نفسها بصوت مرتفع، وأن تطلق سهامها في وجه كل الجدران المحيطة بها. لذا، أراها منتصرة ومبتسمة رغم القسوة التي غلفت عالمها.
ظللت لأيام مشغولة بأشكال المقاومة الفردية والجماعية التي يمكن أن تنتج في ظل واقع يتسم بالانغلاق التام، وأمام سلطة تلعب لعبتها المعتادة ضد الأجساد التي لا تقبل أن تخضع للشبكة الانضباطية التي تُفرض عليها، وتضع النساء محل المساءلة والمراقبة المستمرين، حتى ونحن نعاني من وباء غير عادل بالمرة، خاصة مع النساء. هل يمكننا الانتصار على هذه السلطة دون أن نقدم حياتنا ثمنا لهذا؟ ألم يقل “ميشيل فوكو” إنه ما دامت هناك سلطة، توجد عُقد ومراكز للمقاومة تتناثر بكثير أو قليل من الكثافة فى الزمان والمكان؟ لا يمكنني الادعاء أني وصلت لإجابة أو صياغة رؤية تفاؤلية ساذجة، لكني أعلم أن كتابة هذه اليوميات/الأرشيف الشخصي هي نوع من المقاومة وعدم الاستسلام، ربما تكون الأقل كثافة. لكن أراهن على أن هناك الكثير من النساء اللاتي يصنعن أشكال مقاومتهن الفردية التي تحمل ملامحهن وصبغتهن الشخصية، وأن هناك الكثيرات اللاتي يحققن انتصارات صغيرة يومية، تساعدهن على الإستمرار والبقاء. وربما يأتي اليوم الذي نفرض فيه مقاعدنا حول المائدة بكل عناد.
كتابة: راوية صادق
“أن أنتزع نفسي من كل تلك الكوابيس”
درية شفيق – المذكرات
ألتقط عشوائيا ورقة أمام الكمبيوتر، إذ أستخدم دائما ظهر الورق المطبوع في تدريبات الكتابة. أنظر في ظهرها، فأجد صورة “فوتو كوبي” لقصيدة “ساعات قاتمة” (Heures Sombres) لدرية شفيق باللغة الفرنسية. عنوان ملائم تماما لتلك الساعات التي تلتهم معظم أيامي حاليا، منذ أن فرض كورونا أو كوفيد ١٩ عليّ التزام البيت والخروج فقط للضرورة القصوى؛ فأنا على وشك أن أصبح في الثامنة والستين وضغطي مرتفع.
هل أنا “كويسة”؟ أتساءل مثلما كانت درية شفيق تقول لابنتها الصغرى جيهان عام ١٩٧٥، قبل انتحارها ببضعة أشهر، وبعد ١٨ سنة من مصادرة مجلتيها، بنت النيل والكتكوت، وفرض الإقامة الجبرية عليها. واختارت درية شفيق أن تستمر في إقامتها الجبرية بعد إلغائها، فهل العزلة الاختيارية تجعل المكان أقل أسراً من السجن؟
عندما بدأت الأخبار تصلني عن الجائحة لم أتابعها باهتمام، ولم آخذها على محمل الجد. أعتقد أن أغلب أعضاء دائرتي كانوا مثلي، إلى أن تم إلغاء حفل إطلاق وتوقيع رواية “مايليس دو كرانجال” (شفاء الأحياء).
هذا وضع مشابه لوضع درية بامتياز. في أي جانب منه؟ – تساءلت بحذر، فهي لم ترغب في عزل نفسها في البداية، ولم تكن هناك جائحة. ماذا فعلت خلال وباء الكوليرا العاشر الذي اجتاح مصر عام ١٩٤٧؟
أنا عموما مش كويسة، أنا بتعايش. قعدت فترة أدرب نفسي على التعامل مع الإجراءات الاحترازية ضد الفيروس. روتين يومي ينبغي متابعته بدقة، خاصة عند طلب مشتريات المنزل. كان لازم أحضر الكلور عشان أمسح أسطح المعلبات، ثم أغسل يدي بنفس الترتيب الذي أشارت إليه منظمة الصحة العالمية، ثم أعود لغسل الخضار. تنتابني الحيرة: مية ونقع في الخل أم دعك بالصابون؟ ثم أقرر في النهاية أن الصابون خطر وأكتفي باستخدام الخل. أكثر حاجة حيرتني كيفية التعامل مع الجبن الأبيض، لأنني لا أحب الجبن المعلب أفضل شراءه من اللبان، إلى أن اقتنعت بأن أنزع التغليف وأضعه في “كونتينير” نظيف، ثم أغسل يدي. أستريح قليلا ثم أمسح الصالة بالكلور وأرش الكلور أمام الباب وعلى الجرس. استنزاف عصبي 🙁 .
أرشيف*
دانتي!
هل يمكن
لجحيمك
أن يساوي جحيمي؟
تعال
اهبط معي
درج اليأس
انظر
وقارن!
قطع
موت عرفان خان يوم الأربعاء ٢٩ أبريل – أي بعد ٤٩ يوم من عزل نفسي في البيت كإجراء احترازي – جعلني أعود للفرجة على بعض أفلامه. كانت عودة لآنية ما قبل كورونا. ولأن بعض الأفلام تُنعش الروح، عجبني فيلمه “علبة الغذاء” (The Lunch Box).
دانتي”
قارن جحيمك
– (ذا الجراح المرئية) –
بهذا التعذيب
تشغلني هذه الجملة أو الفكرة، فهي تفترض صحة المقارنة وإمكانية قياس أشياء متخيلة (مثل الجحيم) بأخرى محسوسة وإن كان وقعها مادي ومعنوي. أسرح في دلالات الجحيم (الذي هو بالنسبة لي الآن الرطوبة والحر)، والتعذيب الذي تتدرج مستوياته وتتصاعد دائما نحو مستويات غير مسبوقة.
كلمات
فقد
الشارع
شباك
مرض
معاني
أصابته جائحة: بَلِيَّة- تَهْلُكَة- دَاهِية.l
العزلة: الانعزال:الابتعاد عن الآخرين، وحدة، انقطاع عن العالم.
يستخدم مخرجو فيلم “الخندق الدائم” (The Endless Trench) الكلمة كمدخل لفصول فيلمهم. تابعته بشغف وتأثر. أنا أشاهد أغلب الأحداث بعيون الزوج “هيجِنيو” الذي اختبأ في خندق بمنزله خلال الحرب الأهلية في إسبانيا، واستمر يعيش فيه رغم قرار حكومة فرانكو بالعفو عن جميع السياسيين.
أتخيل أنني أعيش في خندق مثل “هيجنيو”. أتخيل أنني سجينة مثل أبي السياسي في الفترة بين عامي 1959-1964. أتخيل أنني منفية في شقة بالدور السادس مثل درية. أتنقَّل بين الأفلام والروايات، وأتصفح سريعا الأخبار على الإنترنت كأنها مثل هذا الفراغ الذي لا يكاد يُرى، الذي يطل منه “هيجِنيو” على يوميات منزله.
أرشيف*
“عانيت بعضا من نكسة
وأنا حبيسة جدران
ليست من حجر
لكنها أشد وطأة”.
—
* مقاطع من أشعار درية شفيق، من كتاب “مع دانتي في الجحيم” ( قيد النشر، المركز القومي للترجمة). هي مقتطفات من قصائد كتبتها درية خلال السبعينيات. مقتطفات متناثرة مثل تناثر الانفعالات والمشاعر التي أشعر بها، في هذا العزل الذي فرضته على نفسي بسبب جائحة كورونا.
ترجمة : سماح جعفر
نشر النص الأصلي في إصدارة الحكمة المشؤومة العدد 13 (ربيع 1980)
أكتب لمن تشعرن بفرادة مشاعرهن. أكتب أيضًا لصديقاتي، حبيباتي والغريبات. الآن تحديدًا أكتب لنفسي.
– ستيفاني بيرد
“جمهوري” في الأغْلب من النساء، النساء اللاتي يُعَرِفن أنفسهن كنسويات، لكن أيضًا النساء اللواتي يستجبن لليهودية أو تجربة الضواحي في عملي. أخيرًا، أكتب لنفسي، من رغبة في الاشتباك مع أختي، صديقاتي، حبيبتي، عملي. رغم ثقتي أنني أريد لعملي أن يصل إلى أبعد من آلتي الكاتبة.
– روبين بيكر
كنت دائمًا أكتب لنفسي في الأساس، حياتي سَعْي لفهم وضع لا معنى له، حياة قَيْد بطريركية الفتى الأبيض. حين بدأت بكتابة مذكراتي خلال سنتي الجامعية الأوليين، كنت أخلق صوتًا مَفْهومًا بشكل أفضل إلى حد ما من الفوضى المدمرة حولي.
أكتب للنساء السود الأخريات اللواتي عرفن الفوضى التي أتحدث عنها من المصدر، وناضلن بطرق جميلة لتغييرها. أكتب أيضًا للنساء السود في أسرتي اللاتي ربينني ولم تتح لهن فرصة الكتابة بأنفسهن. رغم أنني أعرف أنهن لن يوافقن بالضرورة على ما أكتبه، إلا أنني متأكدة من أنهن سيشعرن بالفخر لأنني كاتبة.
– باربرا سميث
أكتب لنفسي بعد خمس سنوات من الآن، كحارسة نقدية للصور الرنانة والتصريحات العامة الجذابة التي لن تعني لي شيئًا لاحقًا. تقول أمي بحزن، “أتمنى أن تكتبي كتابًا واحدًا يمكنني تقديمه لصديقاتي”. أظن أن قارئتي المثالية هي تلك التي قدمت كتبي بالفعل لصديقاتها. ليس لدي طموح لأن أصير مقبولة اجتماعيًا أو أكثر صوابية سياسية لأن وظيفة الخيال هي التعامل مع ما هو عليه وليس ما يجب أن يكون.
– جين رول
أكتب لكل من يختار قراءة عملي. أفعل ذلك على أمل أن الرسالة التي أحاول نقلها – لأن هناك رسالة دائمًا – ستظهر بوضوح، وتجعل القراء يفكرون بشكل إدراكي أكثر، يحاولون استهلال التغييرات، يتعلمون قبول الأعراق المختلفة، وكذلك الأفراد ضِمْنهم.
– آن ألين شوكلي
“لو أن الرب قطة فضوليّة خضراء – عندها سترى ما تراه” 1. أكتب لأجل قطة فضوليّة خضراء، أفكر، أكتب لجزء من الذات. وبما أنّ الكلمات يمكن تلقيها من خلال أجزاء مختلفة، أخاطب جزءًا معينًا من الذات – حتى لو كنت غاضبة، مُحْتجة أو ما إلى ذلك – ذات أكْثَر نقاءً، أكْثَر صدقًا، أكْثَر وعيًا أو واعية بشكل حساس. أنا متأكدة أنه – وبالكتابة للذات – فأنا لا أكتب للنساء فقط. لكن لو كتبت للرجال فلن يكون ذلك بغرض إرضائهم.
– جين غابن
أشعر بأنني أعرف ريني فيفيان مَلِيًّا عبر شِعرها، وبأنيَّ مُلْزَمة بمحاولة ترجمة عملها بشكل جيد قدر الإمكان. أقوم بذلك لأجلها ولأجل المثليات اللاتي لا يقرأن الفرنسية، ولأي شخص آخر يستمتع بالشعر الحُلْو.
– مارغريت آي. بورتر
منذ وقت طويل حذرنا أستاذ لغة انجليزية من التفكير بجدية في امتهان الكتابة ما لم نشته الأمر بقدر اشتهائنا الطعام والنوم. هاه! أشتهي الأمر بقدر اشتهائي للكَنْس. بصراحة، لم أخطط أبدًا لأن أصبح كاتبة، لكنني لم أخطط لأن أصبح مثلية أيضًا، لذلك من المثير للاهتمام أن أحد الأمرين تَبْع الآخر. أنا كاتبة لأنني مثلية.
– روث بيتز
أكتب الآن لنفسي ولأخواتي. لو أن بإمكان القليل من الرجال سماع ما أكتب، سيسعدني ذلك. لمَ لا زلت أتحدث للرجال أصلًا؟ (كما في كتابي للحوارات، “تَذَكُر من نحن”). لأنهم أحيانًا يطرحون عليَّ أسئلة أريد أن أعرف إجاباتي عليها. ولأنني أصر على الاعتقاد بأن هناك “امرأة شبحية داخل كل رجل” (كما كتبت أدريان ريتش ذات مرة، رغم أنها تشكك في المصطلح الآن). شبح لا يؤمن به معظم الرجال بالطبع. لكن عندما يبدو لي أن الشبح يظهر، أتحدث معه.
– باربرا ديمينغ
أكتب لأعضاء آخرين من مختلف الجماعات المضطهدة التي أتجانس معها. أكتب للنساء بالأساس. ربما بعض كتاباتي أيضًا للرجال المثليين. بين النساء، الكثير من كتاباتي مخصصة للمثليات، وبعضها للنساء السود، والبعض الآخر للمثليات السود على وجه التحديد. أحيانًا أكتب قصيدة لشخص آخر. وبالطبع أكتب لي أيضًا. لا أمانع أن يقرأني أناس لا ينتسبون للجماعات المضطهدة التي أكتب لأجلها، لكن سيتعين عليهم بذل الجهد. أنا لست معنية جدًا بمحاولة زيادة وعيهم بقدر اهتمامي بتوفير مادة لنا، لأجل ثقافتنا، لأجل اسْتِحْداثنا لواقع مثلي نسوي.
– بيكي بيرثا
أكتب للمرأة التي بعثت إليًّ برسالة تقول، “قصائدك تجعلني أعمل بجد، لكنها دائمًا تستحق ذلك”.
– سوزان وود طومبسون
كتابة : فاني/ نور بليكاز
ناشطة نسوية مستقلة من الجزائر، عمري ٣٠ سنة. انتقلت للعيش في بيروت منذ ست سنوات. بدأتُ كتابة الأشعار منذ سنتين على الأرجح. كانت مفاجأة بالنسبة لي على كل الأصعدة، من بينها اللغوية، إذ ما كنت أجيد اللغة العربية ولا أستعملها. ومن أكثر الأسباب التي دفعتني إلى الكتابة، تجاربي الشخصية وعلاقاتي الحميمية، إذ أستوحي منها، وبالتالي أكتب وأعبر عن مشاعر وأفكار تراودني بزمن معين. وأشعاري أكثرها عن العشق ووجع الحب.
(1)
نفس ضيق، صفحات بيضاء
نفس ضيق، قلم ناشف
نفس ضيق، غضب دافق
نفس ضيق، روح مرافقة،
ملزمة أن أكتب
عنكِ، لكِ
أسطرا عدة حبا، كرها
هوس، مرض
لست أعلم
فارتياعي أن ألقّب بالمجنونة
وذنبي أن أهتري من حب قد أفقدني المنطق.
(2)
إلى حدّ الجنون
سكون، سكوت
سكون، سكوت،
يلبسني ويغطي جسدي،
جسد لطالما عشق التجرد،
خواء مكث بي،
متسلط مغذمر.
يرجف كياني خوفا
كرها، نسيان
كرها، نسيان
بأحلامي تلاحقني
وبماضيي تعاقبني
فجلدت مخيلتي
مرارا تعسفا،
لأرتاح
من عذابي المدمّرِ.
كتابة : هاشم
هاشم شاعرٌ ومؤدّي كويري يعيش في بيروت، وينشط في دوائر التنظيم الكويري والنسوي في لبنان والمنطقة منذ عام 2009. يحمل هاشم شهادة البكالوريوس في علوم التواصل والإعلام، وشهادة الماجستير في دراسات الجندر والجنسانية من جامعة لندن. قدّم أعماله الشعرية في أماكن مختلفةٍ في لبنان، بلفاست، مكسيكو سيتي وكاتماندو. عام 2018، كتب وأدّى عرض “المسافة الأخيرة” برفقة الفنان والراقص ألكسندر بوليكيفتش، وهو عرضٌ يتناول مسائل التجسيد الكويري واللغة. حاليًا، يقدّم هاشم فقرة شِعرية أسبوعية بعنوان “بُيُوت” عبر أثير “راديو حمّام”. يصدر ديوانه الأول بعنوان “حقدٌ طبقي” في أيلول/ سبتمبر 2020.
المدونة: https://hashembeirut.wordpress.com
إنستغرام: @hashem.beirut
لا تُصدّقي هذا العالم،
الحياةُ لا تحدثُ
في عقولٍ مرتّبة
وفي قلوبٍ مهذّبة.
عندما أخلعُ أمامكِ
خواتِمي،
أخلعُ معها
كل الكلماتِ المنمّقة
وكل الجُمَلِ المُنسّقة،
أعودُ
فمًا عربيًا
فمًا همجيًا
لا يعرفُ سكينًا ومِلعقة.
يدانِ حرّتان
يدانِ لا تكتبان
إلّا بمسمارٍ ومطرقة.
أعودُ
دربًا سرّيةً
غابةً برّيةً
لا تُخفي عنكِ
زواياها المُظلِمة.
أعودُ
أفعًى عصيّةً
لا تعتذِر منكِ
عن لدغاتِها المُؤلِمة.
***
لا تُصدّقي هذا العالم،
لسنا نستحقّ
أيًا ممّا حدَث لنا،
بل نستحقّ الآنَ هنا
لحظةً عابِرة
لحظةً آسِرة،
فاخلعي أساوركِ أمامي،
وكوني لي
حُرةً
ثائِرة.
كتابة : هاشم
هاشم شاعرٌ ومؤدّي كويري يعيش في بيروت، وينشط في دوائر التنظيم الكويري والنسوي في لبنان والمنطقة منذ عام 2009. يحمل هاشم شهادة البكالوريوس في علوم التواصل والإعلام، وشهادة الماجستير في دراسات الجندر والجنسانية من جامعة لندن. قدّم أعماله الشعرية في أماكن مختلفةٍ في لبنان، بلفاست، مكسيكو سيتي وكاتماندو. عام 2018، كتب وأدّى عرض “المسافة الأخيرة” برفقة الفنان والراقص ألكسندر بوليكيفتش، وهو عرضٌ يتناول مسائل التجسيد الكويري واللغة. حاليًا، يقدّم هاشم فقرة شِعرية أسبوعية بعنوان “بُيُوت” عبر أثير “راديو حمّام”. يصدر ديوانه الأول بعنوان “حقدٌ طبقي” في أيلول/ سبتمبر 2020.
المدونة: https://hashembeirut.wordpress.com
إنستغرام: @hashem.beirut
رفيقتي، حبيبتي
نمارِسُ الحُبَّ
ونمارِسُ الغضبْ،
ولسْتُ أعرفْ
أيهُما أجمَلْ؟
تَصرُخين فيَّ حبًّا
وتصرُخين فيهِم غضبًا،
ولسْتُ أعرفْ
في أيّ اللّحظتَينِ
تَبدين أجمَلْ؟
***
رفيقتي، حبيبتي
يومَ ضرَبونا بالهراواتْ
ورَشقونا بالعُبواتْ
وأسالُوا دمْعَنا،
لم يكُن معنا
سِوى قهْرنا
وفقرنا،
لكنّنا ضَحِكنا معًا
ولمْ تُفلِتي يَدي
في وجهِ الرصاصاتِ الفاسِدَة،
وكفاني أنْ أعرفَ يومَها
أننا واحِدَة.
***
رفيقتي، حبيبتي
تسْقط مصارِفُهم
تسْقط ضرائبُهم
تسْقط بنادقُهم
عندَ قدمَيكِ،
كما يسْقطُ القلْبُ
أمامَ غمّازتيكِ.
***
رَفيقتي، قصيدَتي،
أريدُ بلَدي حُرًا
أريدُ جسَدي حُرًا،
فأمْسِكي بإحساسي
أمْسِكي بأنفاسي،
ولنَصنعَ مَدينةً لَنا
تُشبهُ كل الفُصولْ،
تُشبهُ حُبًا
لا يَستأذِنُ قبل الحُصولْ.
***
رفيقتي، حبيبتي
يُريدُون أنْ يَجرَحونا
أنْ يَذبحُونا،
فكوني دَمي
كوني لَحمي
كوني اسْمي،
ولنلتئِمْ معًا
جُرحًا طريًّا
جُرحًا قويًا،
لا يَفتحُ إلّا
للحُبْ.
***
رفيقتي، مَدينتي،
مَجنونةٌ، مَلعونةٌ
مَطحونةٌ بالقُمامة والعَفنْ،
مَعجونةٌ
بالصُراخِ وبالشجَنْ،
تُطبقُ على رَأسي
كالمِقصلة
كالمِقبرة،
ثم تَهُبّ
هَادِرةً
كالحَنجَرة،
سَاحِرةً
كالجَوهَرة.
***
حبيبتي، حبيبتي
الشذوذُ هُو
أنْ نقبلَ الوَاقعْ
أنْ نهجُرَ الشارِعْ
أنْ نُنكِرَ الحَقيقة،
أنْ أسمّيكِ – بعدَ كل ما صارَ –
صَديقة.
الشذوذُ هو
راياتُ شكرٍ لِمَن يَذبحُوننا،
آياتُ حُبٍ لِمَن يَسحقوننا.
الشذوذُ يا حبيبتي،
رائحةُ بحْرٍ
لمْ نعُدْ نَراه،
رائحةُ قصرٍ
يُكمّمُ الأفوَاه،
رائحةُ فَقرٍ
في مَوانئ الصّيادينْ
وبُيوتِ المُياوماتِ
وخيامِ اللاجئينْ،
رائحةُ مكرٍ
في أختامِ المَصارِف
في أنصَافِ المَواقِف،
رائحةُ قهرٍ
في عَينَي امرأةٍ
مَسْحوقةٍ، مَحْروقةٍ
قبلَ أنْ تقعَ الجَريمة،
رائحةُ عمْرٍ
يَتهدّمُ أمامنا
كبُيوتِ بَيروتَ القديمة.
***
رفيقتي، تَعويذَتي،
هلّا تشفينَ
شِعْري الذي يَهزمُني
وشعبي الذي يؤلمُني؟
هلّا تكونين لي
شمسًا، وهمسًا،
وكأسًا، ورقصًا،
يُطفئ كل القنابل؟
كوني لي فأسًا،
يَهدِمُ كل الهياكل.
كوني ذاكرَتي
كوني ساحرَتي،
أحرِقي كل السلاسِل.
كوني لي أرضًا،
أغْرسُ فيها نفسي
وأمطِرْ،
فتُنبتُ عِنبًا وتينًا ووَردًا.
كوني لي شارعًا
أهتفُ فيه
أثورُ فيه،
فأنتصِر
أو أنكسِر.
كوني لي لِسانًا
متمرّدًا، متشرّدًا،
يقولُ كلَّ شيءٍ
ولا يَعتذر.
كوني لي بيتًا وزيتًا
وخبزًا كفاف يَوْمي،
كوني لي دَمعة ماءٍ،
تُكافئ صَوْمي،
هلّا تكونين؟
أكونُ لكِ
كل ما تُريدين.
***
حبيبتي، حبيبتي،
لوْ كان هناك طَريقان إليكِ
لاخْترتُ الطريقَ الأطوَل،
أليسَ بالصبْرِ
تغدُو الأشياءُ أجمَل؟
***
رفيقتي، حبيبتي،
فلنقِفَ على حافة العالم،
ولنحتفلْ، نحتفلْ، نحتفلْ
بحُبٍ
سَيحدُثُ حتمًا،
بعالمٍ حلوٍ
سَيأتي يومًا.
حبيبتي، حبيبتي،
فلتقِفي على كتِفي،
ولتُطعِمي منْ سُكّر يَديكِ
كلَّ جياعِ العَالم.
كتابة : فرح العريضي
باحثة وكاتبة لبنانية وطالبة دكتوراه في الأدب المقارن من جامعة غولدسميثس في لندن. تتضمن اهتماماتها وكتاباتها الأكاديمية والإبداعية: المدينة، خاصة المدينة في زمن الحرب والصراعات الداخلية؛ المرأة والجسد الكويري في المدينة؛ العدالة الاجتماعية والمكاني؛ وتقنيات القوة وأدوات السيطرة الاجتماعية.
أختلي بنفسي – كما هي عادتي – بين أوراقي، في حانة صغيرة في أحد شوارع بيروت القديمة. أحاول أن أرسم بأحرف مزاجية أشكال الطاولات والكراسي وأحاديث الناس وأصوات الأطباق والفناجين وآثار الدخان المتصاعد من السجائر وغيوم القهوة. أردت اليوم مصادقة أفكاري، فلطالما واستني وحشتي وأوراقي أكثر من أي وجود بشري في حياتي.
تجلسين على طاولة مجاورة. تكتبين، تتأمّلين الدخان المتصاعد من سيجارتك، وكأنّك تضحكين خلسة بتلذّذ عارم. يترنّح على أصابعك لون أحمر. يتمرّغ بتمرّس كلّما اقتربت يدكِ من شفتيكِ. أسترق نظرات عابرة. أتأمّل بدوري بلاغة شفتيكِ عندما تنطق بالأحمر. أسترسل في تأمّلاتي وبحواراتٍ أتخيّلها تدور بيننا، ملِكَتَها حمرة لا تنكفئ. يجلس معي على الطاولة كتاب قديم لفوكو. ألتمّس اهتمامكِ عندما تبتسمين له بتواطؤ. لكن فوكو في تلك اللحظة يكسر اتفاقه السريّ معك عندما تعجزين عن إشعال سيجارتك ثانيةً. فتأتي حينها فرصتي. بشجاعة، لم أعترف قط أنّي أمتلكها، أعرض عليك ولّاعتي. تقتربين. تشكريني. تدنو يدك من ثغرك. يُلقى ضوء على تفاصيل وجهك. تنتبهين. تبتسمين بامتنان ولذة. لكنك لا تتحرّكين. أحاول ألا أبدو كطفلة صغيرة أمامكِ. أسيطر على دقّات قلبي ويأتي فوكو لنجدتنا نحن الاثنتين. تُبدين فضولاً باهتمامي بالفيلسوف الفرنسي. فتمرّ ثلاث ساعات برمشة عين. وتتخمّر أحاديثنا بقعر قنينة نبيذ تتبارى حمرتها وشفتيكِ. تشاركيني ما تكتبيه حالياً، فنغوص معاً في عالم متخيّل يبدو في حينه أكثر واقعيّة من العالم الذي انقطعنا عنه لساعات. فتمرّ ساعة أخرى. ثم ترحلين. “لنا لقاء قريب”، تقولين وتمضين.
أراقب رحيلك ببطء. أشعل بدوري سيجارة، وأبدأ بالانتظار.
تشبهكِ شوارع المدينة، فكلاكما تستحقان الانتظار – كلما مشيتُ خطوة، أو كتبتُ سطراً على أوراقٍ فقدت ترتيبها بعد لقائكِ. غدت كلماتي تنطلق بلا رقيب أو أديب. يمكنني القول إنني اليوم أكتب من دون حساب.
لطالما اتّهمني أبي بأنني أعيش في الأدب ومن خلاله، وبأنني لا أنتمي إلى العالم الواقعيّ، بل أبيت بين سطوري وصوري وشخصياتي وقصصي. فتصبح تلك واقعي، وأنعتق من العالم الحقيقي الملموس، أكتب ما لا أستطيع أن أعيشه. أو على الأقل، هذا ما كنت أحسبه. كنت أتلقّى تعليقاته بلذّة وسخرية لا أُبديهما. فمنذ صغري أنتظر تعليقات أبي التشخيصية. فقد كان يعتبر شعري بعيداً كل البعد عن الشعر، ونصوصي حائرةً، تتعدّى على حدود النثر وأشكاله. فأبي يحترم قواعد وقوالب وقوافي الأدب بصرامةِ مؤمنٍ، في حين أكفر أنا بها كلما أُتيحت لي الفرصة. لطالما استهواني تكسير الهياكل والأشكال التي تأسر المضمون الأدبي للنص النثري أو الشعري، وتعيق حركته وانبعاث صوره بسلاسة. اليوم أتأكّد كم كان أبي على خطأ. اليوم أكتشف بفعل لقائنا وغيابك وانتظاري أنني أستطيع أن أعيش حياتي كما أعيشها في الكتب والروايات، كما أحسّها بالشعر ومن خلاله، أو حتى كما أكتبها. اليوم أكتشف أني حرّة كلما أكتب، وأنني لا أستعيض عن الحياة عبر تحويلها إلى نصّ أدبي. بل العكس تماماً. فعندما تنطلق كلماتي كل صباح على صفحة بيضاء جديدة، أولد من جديد. أرتّب أفكارا عشوائية، ثم أبعثر غيرها بانتظام، وألملم ما خلّفته أحلام وكوابيس الليل الفائت. فاكتشف أنني أقترب أكثر من ذاتي، كلما أزيد سطراً أو بيتاً في دفتري الأسود الصغير.
اليوم أكتشف كم تشبهين مدينتي وقصائدي، كما يحلو لي أن أراكُنّ: ثائرات، حرّات، جميلات. فأنتظركِ.
أرتاحُ في الغياب. أستفيض في الانتظار وأستعيض عنكِ بالكتابة من خلالكِ، وأحياناً قليلة جداً باسمكِ، وأحياناً أقلّ بعد، عنكِ. أنتظرُ وأبحثُ عن البدايات لأعود إليكِ، لأجد طريقي إليكِ ثانية. لكني، ومن خلال التقرّب منكِ عبر فعل الكتابة هذا، أقترب من الراوية والكاتبة معاً. فتتداخل الأنا الأدبية بالعملية الإبداعية، وتصبح الاحتمالات المتخيلة حقيقة في الإفصاح والتجلّي. تتآمر بلاغتي عليّ. فأحوّل سكوني وصمتي – في الانتظار – إلى فواصل كلام، سرعان ما يُسرع قلمي إلى اختراقها وتمزيقها وتشريحها. فأجدنا في التفاصيل. رحلتي وترحالي لا عذاب فيهما، بل لذة البحث بين السطور والقوافي، والتغنّي بجماليات اللغة، وبلاغة الكلام والمعاني في عوالم افتراضية. أكتب لأشطب كل سطر وأبدأ من جديد. كل بداية اكتشاف لزاوية وصورة وانعكاس. كل جديد انقشاع لخبايا معانٍ وتفاصيل تكوين هويتي. فيأتي ترحالي رحلة التعرّف على ذاتي وكسر حواجز الصمت والسرية التي طالما خطّت أفكاري وقيّدتها تحت أسماء مستعارة وضمائر مستترة ولغة أجنبية، لن يفقهها من يجد دفاتري ومسودّاتي المخبّئة تحت سريري.
قُلتِ لي مرة كيف بدأتِ بالكتابة بعد الاستماع إليّ في أمسية شعرية. فتحمّست للكتابة بدورك. لكنك لم تكتبي لي يوماً. لم يُحزنني ذلك. بل العكس تماماً. فأنا لا أريد تحمّل عبء من تكتبين عنها أو إليها. لا أريد أن أتحوّل الى شخصية أدبية تسيطرين عليها كلما سيطرت هي بدورها على أفكارك ومشاعرك. أكتفي بكوني حافزاً وإلهاماً لشغف البدء بقصيدة جديدة، أو قصّة ما. فلا أطمح أن أكون بطلة رواية واحدة، أو ضحيّتها. لا أستطيع قبول كوني احتمالاً وليس أكثر، يتبدّد بضربة قلم، أو لطخة حبر. أرفض الكتابة عنك للأسباب عينها. ستكونين بذلك مجمعاً لشغفي في الكتابة وعشقي لبداية عوالم لا تشبه بعضها بشيء سوى بأنني أنا من ابتدعتها. فأتنقّل بينها كما يطيب لي. أغرق بالبدايات وأُعيد تأليفها وترتيب أحداثها، وتاريخها وتواريخها، كما تبدّلين أحمر شفاهك كل يوم أمام مرآتك. فأبدأ من جديد، كل صباح، وأدور حول نقطة البداية الأولى التي تشبهك بتجدّدها. وتشبه بذلك علاقتي بكِ. فتكونين كل مرة أراكِ فيها كلحظة التكوين الأولى: ثائرة، عابرة، عنيفة، لطيفة، حاضرة، غائبة، أبديّة التجدّد، لا تعيدين نفسك مرة. لحظة أنتظرها كما انتظرتك؛ كل صباح جديد. فكرة انطلقت من أول لقاء وتفرّعت احتمالاتها. هي أحمر الشفاه ولَيْلَى النبيذ ومٍسودات الشعر.
كتبت: سماح جعفر
مترجمة وباحثة فنية بمركز الصورة المعاصرة. نُشرت أعمالها بالعديد من الإصدارات الورقية والإلكترونية، كما في كتب مستقلة. من ترجماتها: كتاب “موسيقى التمرد” لهشام عايدي، رواية “الناقوس الزجاجي” لسيلفيا بلاث، كتاب “عن الحشيش” لفالتر بنيامين، ورواية “عيونهم كانت تراقب الرب” لزورا نيل هرستون. كما تترجم سماح بانتظام وتنشر ترجماتها لقصائد أو رسائل أو أعمال بالانجليزية على مدونتها “الحركات”.
“إنني أعلن الفرد العظيم، المتدفق كما الطبيعة، العفيف،
الحنون، العطوف، المسلح بشكل كامل.
إنني أعلن عن الحياة التي يجب أن تكون زاخرة، عنيفة، روحية، وجريئة،
وأعلن عن الشيخوخة التي يجب أن تُقابل بخفة وبفرح ترجمتها”. والت ويتمان
لم أتردد قط في الموافقة عندما طلبت مني صديقتي أن أكتب في هذا العدد من الإصدارة… عندما سألتني بمحبة إذا وددت الكتابة عن ترجمتي للرسائل في مدونتي [الحركات] 1، تلك الرسائل الحبيبة بمباشرتها وتخفيها وقربها وبعدها، الرسائل التي قضيت وقتًا طويلًا أقرأ عنها، أقرأها، أتسلح لترجمتها، وأحاول سبرها لمرة… كل مرة. لكنني تساءلت عما سأكتب، عما لو أن ما سيُكتب منصف لهذه الرسائل! منصف لشعوري نحوها حتى! منصف لعميق المحبة التي تغمرها! أي لوعة وأي جحيم يعترينا حين نجد أنفسنا محاصرين برغبتنا في إنصاف محبتنا لأمر ما! فكرت أيضًا أن الكتابة عما نحب تسمح للعالم بمشاركتنا تلك المحبة. أعرف أن ترجمة تلك الرسائل ونشرها من البداية هي دعوة للعالم لمشاركتنا المحبة، لكن أن نكتب عن محبتنا في أصلها خطوة أبعد في الكشف والائتلاف.
لقد عرفت في جزء من تلك الرسائل أخواتي في البراعة، اللاتي تقاسمن معي المزالق المرئية والمحتجبة لسلطة المجتمعات الأبوية المستعرة، وتقاسمن أيضًا تلك الحيوات المبتسرة التي يقدمها لنا العالم في طبق من العجرفة التي تشكك في ذكائنا، فقط لأننا ولدنا وبين ساقينا اسم الوردة (لأننا نهذب كل شيء فينا ليلاءم الخيالات الورعة لمتعاطين أفلام البورنو الشرفاء).
كتب 2هنري ميللر في رسالته 3لأناييس نن: “أقول إنه حلمٌ وحشي – لكنه حلم أود أن أدركه. الحياة والأدب متحدان، أحب هذا الدينامو، أنتِ بروحك الحربائية تهبينني ألف محبة، وتبقينني راسيًا دائمًا بغض النظر عن العاصفة، والمنزل هو أينما كنا معًا. في الصباح، نستمر من حيث توقفنا. قيامة بعد قيامة. تستمرين في تأكيد نفسك، وتحصلين على الحياة المتنوعة الغنية التي تريدينها. وكلما أكدت نفسك أكثر أردتني أكثر، احتجتِ إليَّ أكثر. صوتك يصبح أغلظ وأعمق، عيناك أكثر سوادًا، دمك أكثر سُمكًا، وجسدك أكثر امتلاءً. خنوع حسي وضرورة طاغية. أكثر قسوة الآن من قبل – قسوة واعية ومتعمدة. الفرحة النهمة للخبرة“، أعتقد أن الفن هو ذاك الحلم الوحشي، لذلك كل ما ينتج عنه يصيب روحي بتلك الوحشية البذلة، يضعني في مواجهة مع مخاوفي ومخاوف الآخرين، لكنه بذات الوقت يحررني من تلك المخاوف ويجبر عقلي على التفكير. أرى في كل شكل من أشكاله حياتنا بهيئتها المجردة، حياة المحب والمحبوب، التقاء النقيض والمتشابه، المقبول والمرفوض، السائد وما تمت تنحيته.
يجعلني الأمر أفكر في رحلتي كلها. البداية. بدأ الأمر بالموسيقى التي أحبها والداي، برؤيتي للفنان البهيج، الجوهر الفرد خضر بشير 4 وهو يقول في لقاء متلفز يعود إلى السبعينات: “أنا لما تعجبني نفسي بمثل بلبل .. وماله؟! مش منظر وجيه؟” أحسست حينها أن الفن يشبه ذلك الشعور، الإعجاب بالنفس، إطلاق العنان للمخيلة، ربما قالت إيميلي ديكنسون 5 لنفسها (سأكون بلبلًا، وستُعجبني هيئتي وسأهِبك المنظر الوجيه، الكتابة المتفردة، الانعتاق التام، وخلال كل هذا ستخشَى وتزدري هويتي وستُجرد شعوري من مسبباته لتمنحه لقارئ تظنه جديرًا بأن تمحو لأجله حياتي كما عرفتها، وستقوم بكل هذا بعد قبري!)
لقد عرفت منذ وقت طويل أن عين الفن هي التي سأرى بها العالم، ولو تحقق ذلك بلوحة تبصق في وجهنا العذاب الحلو لحاييم سوتين 6، أو بكتاب مؤرق يلفظني في المتاهة الأبدية لغلوريا آنزالدوا 7، بقصة خالية من الدافع المنافق العنيف للصَوابية السياسية، بفيلم يحمل الموت كرسالة ترحيب ووداع وألفة كما في حرب الجزائر 8، 9أو بطقس الليلة وعيشة قنديشة 10 ولالة ميرا 11 وسيدي موسى روح البحر الذي ألهم البلوز والجاز لعالم معدّ بحرفة تخلو من محبة الرفاق… محبة الرفاق الأبدية، لكنه لن يخلو أبدًا من والت ويتمان. 12
أحببت كل الفنون، بأشكالها ومُروضيها، لكن من بينها جميعًا اخترت الترجمة لتكون مهنتي. ترجمت كل ما أحببت، من الشعر إلى الرواية إلى الهيب هوب إلى القصائد إلى الملاكمة إلى الكتب الفلسفية والأكاديمية إلى التصوف إلى الفوتوغرافيا والسينماتوغرافيا، وصولًا إلى الرسائل العظيمة المتبادلة بين الأحبة. جاء اهتمامي بتلك الرسائل البديعة على مستويات مختلفة. تستهويني الرسائل وأحسبها أكثر شكلٍ حميم للكتابة، بين ثناياها نجد المعادل الأكثر نقاءً للشعور الإنساني، كما هو الحال في رسالة الروائي الأمريكي رايموند تشاندلر 13 ردًا على رسالة تعزية وصلته بعد وفاة زوجته، “رسالتك فريدة من نوعها لأنها تتحدث عن الجمال الذين فقدناه بدلًا من تعزيتي بحياة عقيمة لا زالت مستمرة. لقد كانت كل ما قلته عنها وأكثر. كانت دقات قلبي لمدة ثلاثين عامًا. كانت الموسيقى التي تسمع بخفة على حافة الصوت”. أو في رسالة باتي سميث 14 لحبيبها الراحل روبرت مابلثورب 15 التي قالت فيها، “خلال تلك الظهيرة، عندما نمت على كتفي، شَرَدَتُ قليلًا. لكن قبل أن أفعل، خطر لي وأنا أنظر إلى أشياءك وأعمالك، وتمر سنوات من فنك في ذهني، أنه من بين جميع أعمالك الفنية، تظلين أنتِ الأجمل. تظلين أنتِ الأجمل بينها جميعًا”. استطعتُ أن أرى في الرسالتين المشاعر الإنسانية حين لا نضطر لدفعها دفعًا لتصل حيث نريدها؛ فقد أحدهم حبيبه وعبر عن ذلك بأقصى بساطة وبؤس وتقدير ممكن، لا شيء أكثر! لم أحتج منهم لشيء أكثر.
أحب الرسائل الكويرية التي تبادلها الفنانات/نون عبر العصور، ودائمًا ما شعرت بوجوب ترجمتي لها. ربما لأنني أدركت أن العالم لم يكن منصفًا قط لمشاعر لم يفهمها وهوية لم يستطع دحضها أو قتلها. لكنه كثيرًا ما استطاع تهميشها وازدرائها، لأن العالم لم يكن رحيمًا بأي منهن قط، لم يفهمهم قط. وربما أيضًا لأنني أنتمي لفئات مهمشة، وأحسب – ولو لم يكن ذلك دقيقًا بشكل تام – أنني أفهم الصراع – أفهمه لأنني امرأة سوداء من العالم الثالث كثيرًا ما تعرضت للتهميش والازدراء بأشكال مختلفة.
في مقتطف من رسالتها لحبيبتها سوزي 16 كتبت إيميلي ديكنسون: “أحتاجكِ أكثر وأكثر، في حين يتَعاظَمُ العالم الضخم أكثر، ويصبح الأحباء أقل وأقل. في كل يوم تكونين بعيدة أفتقد قلبي الأكبر، وتهيمُ روحي لتُنادي سوزي. الأصدقاء عزيزون جدًا على أن يفصلوا، آه وكم هم قليلون، وعما قريبٍ سيذهبون ولن نجدهم حتى لو بحثنا، لا تدعينا ننسى هذه الأشياء، لأن تذكرها الآن سيوفر علينا الكثير من الألم عندما يفوت الأوان على حبها! سامحيني يا حبيبتي سوزي على كل كلمة أقولها، لأن قلبي مليءٌ بكِ، لا شيء سواكِ في أفكاري، لكن حين أسعى لأن أقول لكِ شيئًا ليس للعالم، فإن الكلمات تخذلُني”. في هذه الرسالة، أنصفت إيميلي الكتابة، وأنصفت المحبة، وأنصفت مشاعرنا باختلافها، اختلافنا بمُثابرته، ومثابرتِنا بصدقها، أنصفت نسويتنا بتلك السطور. أدرك أننا خارج تلك السطور نعاني بشكل يومي وعلى عدة مستويات، لكنني علمت نفسي – ضمن حيل كثيرة للنجاة – أن أنغلِق داخل شعوري بشيء ما في برهته، وألا أسلم ذاتي لشيء سواه حتى يرغمني الواقع على العكس. يمكن أن أقول الشيء ذاته عن رسالة فيوليت ترفيوسس 17 لفيتا ساكفيل-ويست 18 ، “كوني شريرة، كوني شجاعة، كوني سكرانة، كوني متهورة، كوني ماجنة، كوني استبدادية، كوني فوضوية، كوني متعصبة دينيًا، كوني سوفرجت، كوني أي شيء تريدينه. لكن، ولو كان ذلك حتى بدافع الشفقة، كوني ما تريدين بأقصى عزمك. عيشي… عيشي بشكل كامل، عيشي بحماس، عيشي على نحو كارثي إذا لزم الأمر. عيشي سلسلة من التجارب الإنسانية. ابنِ، دمري، ابنِ من جديد! عيشي، دعينا نعيش، أنت وأنا. دعينا نعيش كما لم يعش شيء من قبل، لنستكشف ونفحص، دعينا نخطو دون خوف حيث المكان الذي حتى البواسل يتعثرون فيه ويتقهقروُن!”. أليست المحبة في أقصاها لا معيارية؟ أليست محمسة؟ ألا تدفعنا دفعًا لتحدي الحياة كما نعرفها، العالم كما يريدنا؟ ألا تعرّفنا على أجسادنا وانخراطها في تكوين شعورنا نحو كل شيء أكثر؟ ألا تُشبع ذلك الجوع في أرواحنا؟ مع كل رسالة أقرأها يُفتَح داخلي باب جديد في المحبة ورغبة أكبر لفهم تأثير ذلك على كل شذرة من جسدي. مع كل رسالة أقرأها أنزع عني مُساءلة أخلاقية، قالبًا اجتماعيًا، تسلسلًا هرميًا، تعريفًا مشوهًا حولي وحول الآخرين، مع كل رسالة أتعافى.
تحميني الترجمة من المصاعب التي تسببها الكتابة، من الشعور بهول اللحظة، من المخاوف التي تعتريني حين أفكر فيها حتى. وجدت في الكتابات التي أقرأها سلواي. لكل شعور تملكني كانت هناك قصيدة، رسالة، قصة قصيرة، رواية أو أغنية تصف ذاك الشعور. وقد كانت ترجمتي لتلك الأعمال هي طريقتي للتعبير عن امتناني بجزل المحبة. لكن رغم كل هذا، وفي كثير من الأوقات، نحتاج أن نشرع في الكتابة بطريقة أو بأخرى. علينا أن نكتب، وأن نقرأ، وأن نشارك سريرتنا، لعل الكتابة هي ما نحتاجُه لفهم ما يحدث بأرواحنا. كانت قراءة ما كُتِب هي وسيلتي لمعرفة ما يحدث داخلي. كانت ترجمة ما قرأت هي وسيلتي لتذكر ما توجب علي تذكره؛ أنه رغم ما واجهنا كنساء، ورغم الأسفار التي وضعها العالم على أكتافنا، ورغم تهميشه لهوياتنا ومشاعرنا واختلافنا، ورغم كل الرفض الذي تلقيناه وسنتلقاهُ خلال حياتنا، لا زال بمقدرونا أن نكتب ونقرأ ونعبر ونرفض ونقبل ونفهم، ونخطو فوق الجراح بقلوب مدماة ومحاربة.
كتابة: مي عبد الحفيظ
ترجمة: سماح جعفر
مي عبد الحفيظ نسوية أفريقية، شغوفة بالطعام الحار والقطط، وتكره كتابة السير الذاتية.
لم يتخيَّلنا أحد. أردنا أن نحيا كالأشجار،
جمّيز مضطرم عبر الهواء الكبريتي،
مُعَرّق بالنُدوب، لم يزل يزهر بوفرة،
بشَغف حيوانِي متجذر في المدينة.
كل قصة حب كويرية منكوبة فطريًا؛ هذا ما تعلمناه. كل حياة كويرية منكوبة، مقدر لها أن تبقى في الظلال حيث لا شيء ينمو، لتختفي في النهاية دون ترك أي أثر من تاريخنا، قريباتنا الكويريات، شيخاتنا، وقصص عن حيوات عيشت بتعقيدات متعددة.
ومثل أدريان وشريكتها، كانت نهاية الآن والهنا تلاحقنا بينما نسير في شوارع القاهرة القاتمة ليلًا. جسدان صغيران غِرّان يُناوران القمامة، المَحذُور والرصيف المتباين في مدينة نكرهها ونحبها. حبيبتان غرّتان تحجبان أُنوثتهما بـ “هوديز” كبير الحجم. حوت حقيبتي كتاب أدريان ريتش، “حلم لغة مشتركة”. لقد تعرفت على أدريان عبر مقالاتها ككاتبة نسوية كويرية، الأمر الذي قادني إلى شعرها. كنت مَأخُوذة، والتقمتُ كل كلمة كما لو أنها لفظت لأجلي ومني عبر الزمان والمكان. أحد الأعمال بين صفحات الكتاب هي “إحدى وعشرون قصيدة حب” – مجموعة من السوناتات تلت علاقة كتلك التي وجدت نفسي فيها. خَببنا شوارع القاهرة ليلًا، بينما نتحدث عن حب مشترك للأدب، ونتجرأ لأول مرة في حياتنا الغرّة على الحلم بمستقبل أفضل هنا، وليس في مكان آخر.
العالم يتغير، يتحول، وربما – ربما – يمكننا آنَئِذٍ تخيل حب كحبنا يتحرك في الشمس.
أستيقظ في سريرك. وأعلم أنني كنت أحلم.
في وقت سابق، فصلتنا آلة التنبيه عن بعضنا،
كنتِ في مكتبك لساعات. أعرف ما حلمت به:
أتت صديقتنا الشاعرة إلى غرفتي
حيث كنت أكتب لعدة أيام،
مسودات، ورق كربون، قصائد تتناثر في كل مكان،
أردت أن أريها قصيدة
قصيدة حياتي. لكني ترددت،
استيقظت. كنتِ تقبلين شعري
لتُيقظينني. حلمت أنكِ كنت قصيدة،
أقول، قصيدة أردت أن أريها لشخص ما …
اللاكويريون يحبون أن يسألوا، “متى عرفتي؟” كما لو أن “المعرفة” تعني أن نسمح لأنفسنا بتخيل حياة ومستقبل ومحبة وتقبل. أن نعرف يستدعي أن نتمكن من تخيل تلك الجنسانية، ذاك الشعور، وهذه الرغبة في مدينة لا تسمح بذلك، ولو بالكلمات حتى.
لم أجرؤ على الحلم بشعر يتحدث عنا حتى – ليس كفنتازية، ليس كنص فرعي؛ شعر دُمج في حياتنا اليومية العادية. غرف فوضوية ومنبهات تذكرنا بلَمْلَمة أنفسنا داخل الخزانة مرة أخرى.
مسلحة بكلمات جديدة، تغير هدفي من مجرد الوجود أو يا دُوب النجاة، إلى مُلاحقة درب التاريخ للبحث عن جِذرنا. بحثت بين سطور الكتب المكتوبة بلغتي عن تجارب مماثلة، محجمة عن افتراض أنهن لم تكن موجودات قبلنا، وأنهن لم تتركن تاريخًا. نحتاج إلى دليل على مقاومة سابقة لتخيل مستقبل لأِجلنا نحن الكويريات الوَحدانِيّات هناك.
لم يكن الشعر جزءًا أساسيًا من مكتبتي أبدًا. كانت مكتبتي في الغالب تخييلًا، حيث أكون الحيوات العدة وبطلات عقل الكاتب، واللا تخيل، حيث ستكون حيواتنا نظريات صِرفة. لَمّا قرأت أدريان، أدركت أنني أحب الشعر حقًا، لكنني شعرت بأنه اِخْتَانني. حتى عندما أصادف قصيدة تصور فيها رغبات ومحبة النساء الكويريات، يتم إخفاءهن بصورة مجازية أو نص فرعي غامض، أو يُنظر إليهن عبر عيون الرجال الذين يتجسسون على حيواتنا من خلال ثقوب المفاتيح المتلصصة.
افعلي كل ما تستطيعين للنجاة.
أتعرفين، أظن أن الرجال يحبون الحروب …
غضبي المُستَعصِي، وجروحي التي لا تندمل
تنفتح أكثر بالدموع، أبكي عاجزة،
وما زالوا يسيطرون على العالم، وأنتِ لست بين ذراعي.
رُويدًا، صارت تمشيتنا اليومية الليلية أقصر. كانت أقدامنا مرهقة بالفعل، احتجاجًا على مجهود المسيرات النهارية الطويلة التي يقودها أملنا الجماعي، غضبنا، حسرتنا. تُرك كتاب القصائد على السرير الذي تقاسمناه. لم يكن بإمكاني المجازفة بفقدانه خلال الوقفات الطويلة إلى جانب النساء والرجال المتطوعين للالتقاء والتصدي للاعتداءات الجنسية الجماعية – ردًا على الصدمة الأولية لاكتشاف أن النساء يتعرضن للاغتصاب والاعتداء في مكان يطالب بالحرية.
تعرضت النساء ضِمْن الحشود للغدر بسبب أنوثتهن المزعومة على أيدي الغوغاء، وفرض الواقع الذي أُبْعِد ذات مرة على أمل بسيط بأن المساواة تنطبق بطريقة ما على أنوثتنا، التي تدعو لأن تشملنا الحرية والأمن. زارتني أدريان مِرارًا أثناء صد تلك الهجمات الوحشية، ذكرتني بجمال المحبة حتى النداء التالي للمساعدة، بينما أتجاهل أصابع الدُخَلاء التي تتسلل إلى أكثر الأماكن حميمية لتمحو لمسة الوَجْد المحبة من الليلة السابقة.
غطيت جسد الفتاة التي تصرخ. لا أذكر شيئًا سوى صراخها والاختناق. حاولت تغطيتها دون أن ألمسها. لو أنها عرفت من أكون حقًا، لو رأت في تلك الأيدي التي طوقتها عديد النساء الأخريات اللائي طوقنني، فهل ستبتعد بنفور واِرتياع؟ هل تبرئني أنوثتنا المشتركة في عينيها؟ تركت هذه الأسئلة دون إجابة.
تمنيت أن تكون أدريان معي حتى أتمكن من سؤالها، “كيف تمكنت من النجاة طوال تلك السنوات دون أن تُستهلك بالمرارة؟” لكنها تركتنا في عام 2012. تمنيت لو أنيّ في مكان آخر، في سريرنا، أقرأ، أهرب من هذا الواقع. أردت بيتي.
قرون من الكتب غير المكتوبة تتكوم خلف هذه الرفوف.
ولا يزال يتعين علينا التحديق في غياب
رجال لا يريدون، نساء لا يستطعن
التحدث لحياتنا – تلك الحفرة غير المنقّبة التي
تسمى الحضارة، فعل الترجمة هذا، نصف العالم هذا.
كانت المكتبة بيتي منذ أن كنت في التاسعة من عمري، أقرأ كلمات أوليفر تويست وهو يطلب المزيد من الحساء. لقد تعلمت أن أطلب أكثر من الكلمات وأقل من الحياة.
كانت الكلمات درعي ضد الراشدين الذين حاولوا قولبتي داخل صندوق ما يجب أن تكون عليه “الفتاة الجيدة”. الفتاة الجيدة لا تقرأ كثيرًا، ربما تقرأ ما يكفي لتلقي تعليم يمكّنها من امتهان وظيفة، لكن بالتأكيد ليس لحد يقودها للتشكيك في العالم الذي تعيش فيه. أو كما اعتادت والدتي أن تقول “الانغماس في الكلمات والأدب سيدمركِ!”
لا تملك النساء الكويريات رفاهية الجهل؛ لا يمكننا المخاطرة براحة تجاهل تعقيدات تصادم الجنس مع الرغبة. يحب البعض منا التظاهر بأننا سنكون بأمان لو لم ننظر بازدراء إلى الخطر الذي يحدق بنا، وينتظر ابتلاعنا مرة أخرى نحو النسيان. تترجم كلمات مثل “القمع” إلى سحب اليد بسرعة قبل لمس يد أخرى في العلن. خِلال ذلك، يتم اختيار خطاب التحرير بأكمله في صورة احتفال سنوي، وتصبح أقواس قزح رمزًا سلعيًا فقد معناه، تلوح به الشركات في شوارع نيويورك ويُقاضى بسببه في شوارع القاهرة. إنه يحوي كل لون يعكس الأجساد البيضاء، تاركًا الأسود والبني – المَنبُوذ والمهمل – ليشاهد الموكب يمر عبره ويدوس بأقدامه الراقصة على أجسادهم المظلومة، المعذبة والمقتولة.
يداك الصغيرتان، تماثلان بدقة خاصتي
الإبهام فقط أكبر وأطول – في هذه الأيدي
يمكنني أن ائتمَن العالم، أو في عدة أيدي مثلها.
كيف يمكنك أن تحبي جسدًا مشابهًا جدًا للجسد الذي تعلمتِ أن تكرهيه، تعلمتِ أن تشعري بالخجل منه منذ الولادة؟
في بعض الأحيان، تبدو المحبة والثقة كمشاعر غريبة بالنسبة لي، لغة تعلمتها عبر تكرار أغاني الحب منذ كنت طفلة تلاعب بشغف انعكاسها في المرآة، نفس المرآة التي تعلمت فيها تجنب نظرة عيني نحوي.
قرأت أدريان بينما أفكر في الأيدي التي أثق بها. تتبادر إلى الذهن عدة أشياء، مثل يد الأب وهي تلكم وجه الأم، ويد الأم الأقل قوة والأقل غضبًا وهي ترد الضربة في الهواء. ليست الأيدي سوى تهديد، تذكير حقيقي بالعنف الذي يحب العالم تسميته “المحبة”. أفحص يدي… مزيج من يديّ أمي وأبي. لا عجب أنني تعلمت لكم الجدران في وقت مبكر من حياتي.
الحب الكويري صراع يومي، ليس لأجل قبول المحبة فقط، لكن أيضًا للثقة في أن الأكف المفتوحة نحونا قادمة للملاطفة وليس للصفع، وأن هذه الأيدي ذاتها لن تمزقنا بَطْنًا لظهْر. أنا لا أثق في الأيدي خوفًا من أن يقدم أبي أو أبوها من خلالنا بإطلاق العنان لنفس الغضب مرارًا. لا شك أن التشابهات والتوازيات جذابة من الناحية الجمالية، لكن كيف يمكنني التوقف عن إسقاط وتغذية نفس العار؟
حين أكون بعيدة عنكِ أحاول خلقك بالكلمات،
هل أستخدمك ببساطة كنهر أو حرب؟
وكيف استخدمت الأنهار، كيف استخدمت الحروب
لأتجنب الكتابة عن الأسوأ بين الجميع
ليس جرائم الآخرين، ليس موتنا حتى،
لكن الفشل في اِبتغاء حريتنا بشغف كافٍ.
الشيء الوحيد الذي كنت أثق به دائمًا هو الكلمات – الرقص على بياض الصفحات التي كانت فارغة ذات مرة. يعني الوقوع في الحب التَوق العميق للكتابة عن الحبيبة. استخدمت الكلمات مثلما استخدمت الأجساد، حتى أتقنت فن الاختباء على مرأى من الجميع، ليس بين السطور، لكن بين الكلمات.
حالما حلمت بكلمات مُتَّضحة ونافِذة كتلك التي اعتدت أن أصادفها، اعتقدت ذاتي الأصغر سنًا أن دفتر يوميات بقفل على شكل قلب كافٍ لإخفائها. انتهى الأمر بقصة مضحكة عن والدتي تقرأ كلماتي وعباراتي باِستِهزاء استوقفني فجأة، بينما كنت عائدة إلى حيث احتفظت بيومياتي الحبيبة، لأكتشف أن الأقفال نفسها تخون الأسرار… بالمقدار المناسب من القوة.
لم أستطع التوقف عن الكتابة، تعلمت فقط أن أخفي الأشياء بطريقة أفضل – حتى قابلت امرأة طلبت مني كتابتنا. بدا وكأنني أحبك، فقد أمضيت ليالٍ عدة إلى جوار جسدك النائم، هزته ليستيقظ وتتمكني من قراءتي، كنت أدرس ملامحك بعناية أثناء القراءة، متوقعة أن يخونك وجهك ويظهر إحباطًا، أن تملأ ضحكة أمي الغرفة، “أنتِ فاكرة نفسك مين؟ نجيب محفوظ؟” حفظت العديد من المسودات، لكنني لا زلت لا أثق في الأقفال أو كلمات المرور… فقط فن الاختباء في كلماتي.
لكني أريد المتابعة من هنا معك
مقاومة إغراء امتهان الألم.
حين أقرأ المزيد من القصص التي تشبه قصتنا، فإنها بحاجة ماسة إلى التحقق من صحتها. لكن كلما قرأت أكثر، كلما شعرت أنه لا يوجد أمل. أصبحت قصص أجساد الكويريين مرادفة للصدمة، ولا يسعني إلا أن أتساءل عما إذا كان بإمكاننا تخيل أي شيء يتجاوز تلك الصدمة، الرفض والخوف. أنحن مشغولون جدًا بمحاربة الواقع حتى يتاح لنا تخيل المستقبل؟!
ما هو الكويري دون الصدمة؟ صدمتنا هي جواز سفرنا، كما صاغتها ياسمين نير ببلاغة، والقبول المدفوع بالشفقة ليس مساواة. إن رؤيتنا فقط في ضوء صدمتنا لا يسمح لنا بأن نكون أشخاصًا بهم عيوب. إنها خزانة داخل خزانة وأنا أخشى أنه لكي يتم قبولنا كنساء كويريات، فإننا نظهر جروحنا دون إظهار حقيقتنا أبدًا.
تتبعني الرغبة في القبول في كل مرة أحاول فيها الكتابة. أنا خائفة حقًا من الكتابة. من الأسهل أن أغضب من أولئك الرجال والنساء الذين لا يمتلكون الشجاعة الكافية للكتابة عن أنفسهم بدلًا من مطالبة نفسي بالمثل.
أنا فَزِعة من كتابة أو مشاركة مسوداتي… من تسمية وجودي. آمل أن يقوم شخص آخر بذلك بدلًا مني. حتى لغتي تخونني في هذه اللحظة، فأتحدث بلغة المستعمر، المختلفة عن تلك التي أحلم وأتألم بها. أواصل تكرار الحجج بشكل يومي تقريبًا (لأي شخص يستمع) حول قوة اللغة وأهمية تسمية الأشياء، لكن في الوقت ذاته أفتقر إلى الكلمات لتسميتنا أو حتى تسميتي. ما نملكه هو كلمات تُقدم طبقة واحدة في كل مرة.
أترقب
رياحًا ستفتح بلطف هذه المياه المنهمرة
لمرة، وتريني ما يمكنني فعله
لأجلك، يامن جعلت غير المسمّى
مسمّى لأجل الآخرين، لأجلي حتى.
“اكتبينا”، يتردد صدى الكلمات في ذهني بين الأخوات، والرفيقات، والحبيبات، والنساء اللواتي يحملن نفس نار الرغبة المحرمة؛ بإرادة للعيش أكبر من العالم وأقوى من الكراهية. اكتبينا، قولي إنكِ كنت شاهدة، ولم يكن الأمر كله خزيًا وأحلامًا محطمة. اكتبي قصص حب قوية لدرجة تحول الظلام إلى ظل مُتلطف، وخزائن كبيرة كافية لإقامة حفلات؛ فن العيش في بطن الوحش. اكتبي الأشياء الجيدة، والسيئة والقبيحة عن مجتمع مشابه إلى حد كبير لكنه مختلف، آثار أولئك اللاتي فقدناهن/م للموت، المرض، واليأس، وأولئك اللاتي علمننا أننا لا نستطيع النجاة إلا معًا.
أحيانًا بين أجساد النساء الراقصات، أسمع صدى الموسيقى يتردد عبر الزمان والمكان: لسنا الباكُورَة ولن نكون الختام، كما يحاول العالم جاهدًا إخبارنا.
بوصفي امرأة كويرية لا أملك سوى الكلمات، ما زلت أخشى رغبتي، واحتياجي إلى أرشفة هذا التاريخ نار مشتعلة داخلي، تلتهمني، ولا تنطفئ إلا بقبول توق وشوق الجسد، العقل والروح.
أود لو أمسك بيدك بينما نرتقي المَسلَك، لأشعر بشرايينك تتوهج في قبضتي.
بالنسبة لرفيقتي في التمشية الليلية، فقد انفصل مَسلكنا، انقسم إلى اثنين بثقل الحب والكراهية. عندما أُسأل عما حدث، عادة أجيب: “حدث الزمن”. أحيانًا استمر في تتبع خطانا في الشوارع القديمة ليلًا، أتتبع الماضي عبر أسطر شعرية في مجموعتي الشعرية المتنامية لأدريان وشاعرات/اء وكاتبات/ب آخرين. أخط أسطري بقلم رصاص لتتقاطع الكلمات مع حياتي، أصيغ خاصتي وخاصتها، رسائل متبادلة في أوقات الوجد والحسرة، وقصائد قُرأت بصوتٍ عالٍ في غرف النوم كتَعاوِيذ تحمي عالمًا من الأمل.
يبلغ الكتاب ست أعوام الآن، لكن الحِصن المشيد من الكتب والقصائد ليس قويًا كفاية لمنع العالم الخارجي من تسريب أسماء ووجوه النساء اللواتي تم جرهن عبر الشوارع نحو زنازين السجن لتجرؤهن على الرقص، على أن يكُّن نساء؛ تخمَّرت وجوه وأسماء الكويريات/ين المتساقطات/ين بسبب المجتمع. عندما أفكر في أمي الآن، أفكر في القوة التي تطلبها الأمر خلال تلك الأوقات للوقوف أمام عيني الصغيرتين وتلقي الضربات دون أن تخر على ركبتيها أبدًا، ذات القوة التي كان من الأَيسَر بالنسبة لي وصفها بأنها ضعف. رأيت فقط ضعفها. بإدراك التشابه مع والدتي ومع عديد الحبيبات، فقد عدت إلى نقطة البداية. لقد أدركت أن النجاة فن تتقنه النساء في بلد وعالم يستمر في ضربهن ووصفهن بالضعف لعدم قدرتهن على رد الضربة.
عندما أقرأ أدريان الآن، أحلم أنني أستطيع قراءتها لأمي، أول امرأة تعلمت أن أكرهها وأحبها. أريد أن أسألها، “هل علمتِ مخاطر الكلمات؟ ألهذا لم تريديني أن أكتب؟”
بالنسبة للمدينة، أفكر في ست سنوات دفعتني من الحلم بنص مثالي وكتابة رسائل الحب إلى صياغة خمس رسائل وداع تُسلم بعد المغادرة، لأن العالم كان فادِحًا للغاية وكان المهرب الوحيد حينها هو الحلم بنوم أبديّ طوعيّ بدلًا عن انتظار أسوأ نهاية؛ حياة بلا أمل، تطبيع كل القبح والعنف، وتحويل الكلمات إلى حبر على ورق فقط.
هذا ما كنا عليه، هكذا حاولنا أن نحب،
وهذه هي القوى التي أعدوها ضدنا،
وهذه هي القوى التي أعدوها بيننا،
بيننا وضدنا، ضدنا وبيننا.
صرت أفهم أدريان أكثر وأراها كإنسانة وليست شاعرة فقط؛ أقدر الكلمات المخبأة بين السطور بدلًا من وصفها بالجبن، كما لو أن الخطر أقل واقعية لأولئك اللاتي همسن، كما لو أن ألسنتهن لم تقطع كلساني بسبب المطالبة باسترداد الأجيال مجهولة الهوية.
وهكذا كتبت، مفكرة في أيادٍ كثيرة، صاغت كلمات لن ترى نور الأرواح والقلوب الناجية التي تجرأت على المحبة حتى سمعت نفسها تتحطم. كلمات تسافر إلى جسدين فتيين يمشيان في شوارع مدينة باردة تعد بأمل ومستقبل أفضل، ما يؤكد صحة الحاضر.
ها أنا ذا، ها نحن ذا؛ نعيش، ننبتُ من الخرسانة، نتبع رائحة الرغبة، نسير نحو دقات القلب التي لا يمكن إيقافها. ونكتب، مسترشدات بشعر امرأة آمنت بالضعف الجذري والحنوّ.
لو أن بإمكاني إخبارك،
فإن امرأتين معًا أمر ناجح.