Category Archives: غير مصنف

حِيْنَ يكون القلب الوَحْدانِيّ قلبٌ كويريٌ وحسب

 

حِيْنَ يكون القلب الوَحْدانِيّ قلبٌ كويريٌ وحسب PDF 

كتابة : نور كامل 

ترجمة : سماح جعفر

جاحدة، تكتب وتحرر أشياء. تم اختيارها للقائمة القصيرة لجائزة جامعة برونل للشعر الأفريقي في ٢٠٢٠، ونشر لها ديوان شعر (نون) ضمن سلسلة الشعراء الأفارقة الصاعدين (سيتا).

 

عزيزتي سو،

لا يمكن أن يموت 

المحْب

لأن الحب أبدي

لا بل ربوبي

إيميلي. 1

***

 لُحْمَتي مع إيميلي ديكنسون تمتد لشعرها ولها كشاعرة فقط. لم أشعر قط بلُحْمَة مع إيميلي ديكنسون نفسها؛ فقد أخبروني بأن أشفق عليها. أخبروني: ها هنا امرأة لم يفهمها أحد، امرأة لم ترد أن يفهمها الناس، أغلقت نفسها عن العالم، لم تُحِبّ أو تُحَبّ أبدًا، وكانت تواقة فقط للموت. خَيَال قوطي رومانسي لاستبدال أي شخص يُسَمح لإيميلي بأن تكونه. حين فكرت في إيميلي، فكرت في مُتَوَحّدة مُنعزلة، بائِسة، فرضت عزلة على ذاتها، شغفت بعمق، لكنها انتظرت الموت عوضًا عن الحياة. كان العالم مُفْرِطًا. رفض العالم تضمين كل أجزاءها التي لم يعتمدها. أغلقت ذاتها لتحفظها. عندما ماتت، أخذوها على أي حال.

***

هذه رسالتي للعالم

الذي لم يكتب لي قط 2

***

أعيش بمصر، البعيدة جغرافيًا عن المكان الذي عاشت وماتت فيه إيميلي. في مدرسة ثانوية بريطانية وجامعة بريطانية، درسني آخرون عن تاريخها، شعرها، ثقافتها وكلماتها. لاحقًا، تعرفت عليها وحدي عبر شبكة معلومات افتراضية مَحْدُودة، رغم قدرتها على التوصيل وتبادل المعرفة لأنني لم أُمنح قط أجزاء كاملة من قصتها. على الأغلب، لن أرى أو أضع بين يدي أي شيء يخصها ماديًا؛ قصائدها، رسائلها وأوراقها المتبقية. أي شيء يخص إيميليٌ بحق. لن يكون لديّ سوى أشياء شكّلها وأعاد كتابتها آخرون، اِسْتُفرغت نحوي من خلالهم أولًا.

***

أن اقتني سوزان لي

هي غِبْطَة بحد ذاتها 

أَيًا كان المَلَكُوت الذي ضيعته يا إلهي

ابق عليَّ في هذا! 3

***

خلال “ليالٍ جنونية مع إيميلي” – مسرحية حولت لفيلم بواسطة مادلين أولنك – وعديد المقالات التي نتجت بعده، اكتشفت أن كل ما أخبروني به عن إيميلي خاطئ. كان لإيميلي قصة حب طويلة وموثقة جيدًا (تم محوها فيما بَعْد) مع صديقة طفولتها وزوجة شقيقها مستقبلًا سوزان غيلبرت. مزقت أولنك المرأة المثلية، عبر الإطار المغاير الذي حاصر إيميلي لفترة طويلة ونَقّح سوزان بالكامل. أظهر الفيلم إيميلي إنسانية جدًا، قريبة وكويرية. لم تكن الخيال الرومانسي التراجيدي لأي كان، سوى أولئك الذين قرروا جعلها كذلك لتبدو مستساغة. لم تكن علاقتها مع سوزان مخبُوءة قط، بل متجاهلة.

***

صدرها مُلاَئِم للؤلؤ،

لكنني لست “غَطّاسة”

جَبِينها مُلاَئِم للعروش 

لكنني لست في القِمّة،

قلبها مُلاَئِم للمنزل

أنا – دُورِيّ – بنيته هناك

بحلو الأغصان والخيوط

عٌشي الدائِم. 4

***

وعلى عكس ما علموني، فإن كل شوقها وطاقتها وحبها، لم تكن موجهة جُمْلَةً بطريقة مغايرة. لِعْبها مع النوع الاجتماعي، لِعْبها مع البنْيَة، تأثيرها على الحداثيين وما سيصبح أسلوب تيار الوعي، كانت كلها أشياء أشعرتني بلُحْمَتي معاها في كتاباتها، ومع ذلك شعرت ببعدي عن حياتها الحقيقية. شعرت بالخيانة والتضليل من الأكاديميين والعالم الأدبي (الذي يحكمه البيض) والذي قرر أن يصورها كمُتَوَحّدة غير محبوبة لم تتزوج أبدًا، وبالتالي لم تحب أبدًا، ولم تعش إمكاناتها الكاملة كـ “امرأة” في عالم مغاير. ولكن مثل سافو، لم تكن قصائد إيميلي موجهة نحو جنس بعينه قط، كانت تكتب دائمًا لمن تحبه وتشتاق إليه أَيًّا كانَ. معظم الوقت كانت تكتب لسوزان.

***

أن أشتاق إليكِ يا سو،

قوة. 5

***

حرر شعر إيميلي بشدّة بعد موتها، ورسائل حبها الموجهة لنساء حُرِّفَت لتبدو وكأنها موجهة لرجال، أو تم محوها بالكامل. معظم أشعارها نُشرت بعد موتها لأن لا أحد كان سينشر لها وهي حية. لم تتناسب كتابتها فِعْلًا مع أسلوب تلك الأوقات، ولم تنحني لأهواء الرجال الذين قرروا ما يستحق وما لا يستحق النشر. حدث هذا لفنانات عظيمات عدة مَرّاتٍ عبر التاريخ. العديدات منهن اضطررن لعيش حيواتٍ توقعها الآخرون منهن، ولم يُعترف بفنهن وحياتهن الحقيقية بالكامل! أُخذت كلماتهن، أو مُحيت، أو غُيّرت لتناسب القوالب والتوقعات المجتمعية، حتى يستفيد منها آخرون فحسب؟

مابل لوميس تود – أول محررة جمعت ونشرت قصائد إيميلي

محت أغلب ما يتعلق بسوزان بقدر ما استطاعت

سوزان المتزوجة من أوستن ديكنسون

أوستن الذي كان حبيب مابل، والذي أحبته مابل كثيرًا

عزلة إيميلي التي رفضت رؤية مابل قط

الإيميلي التي أحبت سوزان.

ليالٍ جُنُونِيّة

وتاريخ مدفون

لنساء أحببن نساء

ولم يمزقن بعضهن

كل شيء بَرّاق 

صار طَيّ الكِتْمان.

تلك التي لديها حبيبة

حبيبة امرأة تحبها

لا يمكن إخفاؤها للأبد

أو جعلها واقعة في “حُب” أي رجل

كتبت له الرسائل.

***

أمعنُ في احتمالية

منزل أعدل من نثر

وافر بالنوافذ

مُتَفوق – على الأبواب 6

***

كانت إيميلي كويرية، بكل معنى تاريخي للكلمة. كانت الأساطير حولها أنها أُسيء فهمها – وقد كان كل ذلك مخططًا له، لكنه لم يكن إيميلي. لقد رغبت في أن تُعَرَف وتُفَهَم، أرادت لكلماتها أن تُنَشَر وتُقَرَأ. جعلت مابل لوميس تود – بصفتها محررتها وناشرتها بعد وفاتها – إيميلي صالحةً للنشر عبر إزَالَة كل أثر لكويريتها، بِذاكَ جعلتها مَجْهُولة، أُحْجِيّة خلال العملية.

الموتى لا يخشون شيئًا. ولا إيميلي الحية أيضًا. فقد بعثت كلماتها واشتاقت للنشر كأي كاتبة. لم يرد أحد كلماتها “الكويرية”، أسلوبها غير المَسْجُوع، واسمها المجنسن.

***

أين احترام الموتى؟ 

لمَ الآن – بعد أكثر من مئة وثلاثين

سنة منذ أن وجدت –

وكتبت الكلمات – لمَ

عادت للأضواء – للوعي

للشِعْرِيَّة الكويرية

وسُمح لها – أن تكون شِعْرِيَّة كويرية؟

حتى القرن الواحد والعشرين تقريبًا

قبل أن ترى امرأة امرأة أخرى بالكامل

وتُخبرنا أنها أحبت – امرأة؟

أعتقد – أن جميعنا نعرف لمَ.

لأجل النساء اللواتي مُحين، النساء اللواتي تم تجاهلهن

ولأجل النساء اللواتي يحببن نساء

ويدعنّ إيميلي تحبهن – أيضًا –

أمام العالم كله.

لا أحد سيعرفها قط.

من الأفضل أن نصنع أسطورة – بالتأكيد

من شاعرة مُخرَسةٌ وصامتة؟

لنخلق من كلماتها سردية المرأة

منبوذة الحب – المشتاقة للحب ، الذي لن تحققه أبدًا؟

التي – قطعت كلماتها – جُمعت مجددًا

وقدمت لدعم هذا؟

***

يُعد النجاح أحلى

لأولئك الذين لم ينجحوا.

لأن استيعاب الرحيق

يتطلب أشد الحاجة. 7

*** 

عرف المؤرخون. أنه شيء

– على ما يبدو – يصعب تفويته

إلا لو كنت لا تبحث عنه حقًا –

إلا لو كنت عاجزًا عن تخيل أي شيء بَرّانِيّ

ما الذي أردته من إيميلي – أن تكون حياتها

مثل أسرتها – مثل موثقيها المهووسين

وأولئك الذين يقعون في حب مغاير –

مع فتاة ميتة كتبت كلمات عن اشتياق الحب –

الذي ملكتهُ دائمًا. لكن ليس بطريقة

تمكنها هي أو سو –

من أن تكونا – معًا.

***

قل الحقيقة كلها ولكن قلها مائلة –

نجاح الجَوْلَة يكمن

بَهِيجًا جدًا لأجل فرحتنا العاجزة

لابد أن تخفف مفاجأة الحقيقة البَدِيعة

كما يخفف البَرْق  للأطفال

ببعض الشرح

على الحقيقة أن تضيء تدريجيًا

أو سيصير جميع الرجال عميانًا – 8

***

الموت ، الأسطورة – والخلود.

كيف تريد لنا أن نتذكرها؟

لا أحد يتوقع المحو، لكنه واقع

هدية من الموت. الخْزي التالي للموت

ظاهرة غير مُعللة، ولا

تبدو هيئتها بذات الحال أبدًا. 

***

لأنني لا أستطيع التوقف لأجل الموت

فقد توقف لأجلي بكياسة 

لم تحمل العربة سوانا 

والأبَد 9

***

صار نقص الحب – رغم وجود الحب بعدة أشكال هناك – اسمها المستعار، بطاقة تعريفها. أَفَلَت ملكة القلوب الوَحْدانية من نقص الحب. أصبحت إلهة الحب المر كالعلقم، بفعل تجاهلها وفقدانها وعدم حبها لعِلّة في شكل مجتمعنا. لم تكن إيميلي محرومة على الإطلاق. احتاجت إيميلي لتغيير شكل المجتمع لنفسها. رأى المجتمع والمحيطون بها أن ذلك تَحْقِير، تحديدًا أنثوي. من يستطيع أن يعيد تشكيل المجتمع وحده؟

***

أرني الأبَدِيّة، وسأريك ذِكْرَى

كلاهما بحزمةٍ واحدة

رفعت مرة أخرى

كوني سو – بينما أنا إيميلي –

كوني بعدها — ما كنته دومًا — اللا متناه. 10

***

لقد استرددتُ إيميلي كشيء يخصني. لو لم تخبأ الأجزاء المتسقة بين حياتها وحياتي لوقت طويل، أكنت سأقرأها بعمق أكثر؟ أمنحها المزيد من وقتي؟ سأمنحها الآن – لقد منحت كلماتها وزنًا أكبر وسعيت إليها، عطشة لما قد قرأته على أنه كويري فيها، وأخبروني بأن ذلك غير ممكن على الإطلاق.

أُخبِرتُ بأنها ليست مفهومة تمامًا وأن بعضنا يجب ألا يحاول قط. لكننا ثابَرنا، تَنَقّلنا، تظاهرنا بمئة هيئة والتزمنا بتَيَقّننا – بأننا كنا موجودات دومًا. بعضنا لن تتوقف مطلقًا عن البحث عن ذواتنا في التاريخ، لأننا نكون هناك في كثير من الأحيان – نحملق في ذواتنا، قَوْمنا، عَشِيرَتنا. أسلاف وأَعْقاب نجون رغم كل شيء، عشن حياتهن بكليتها، كما نحاول أن نجد طرقًا لعيش حياتنا الآن.

***

لقد اعْتَزَمت أن

أكتب لك إيميلي اليوم 

لكن الطُمَأْنينَة لم تكن إلى جانبي

لذا أرسل لك هذا ، لئلا يبدو وكأنني

رفضت قبلة –

لو أنك عانيت خلال الصيف الماضي

أنا آسفة لأني

إيميلي تَكَبّدت تَحَرّقًا

لم أكشفه قط – – إذا تمكن

بلبلٌ من الغناء وصدره قبالة

شوكة ، لمَ لا نفعل المثل

سَوْفَ أكتب حين أستطيع

سو 11

روي الجذور 

Share Button

حبّ عنيف أم عنف طبقي؟ التواطؤ مع سرديات التمييز في رائحة القرفة

 

حبّ عنيف أم عنف طبقي؟ PDF

كتابة : رولى الصغير

رولى تعمل على قضايا العمل والهجرة والجندر. تحلم بدبلجة برامج الأطفال. تكتب أحيانا وتعيش في حالة أزمة وجودية دائمة.  

 

قد تكون الكتابة فعل اختزال، لأنّها تتمحور حول نمذجة واقع أو رغبات واحتياجات فرديّة ومجتمعيّة بواسطة لغويّة، أو قد تكون فعل تخيُل وخلق. من خلالها، بإمكاننا تأريخ حيوات وجعل أشخاص ما أبطالا أسطوريّين. كما بإمكاننا الانتقام من الأعداء وتحجيمهم وتحويلهم إلى نكرة. بإمكاننا تجريدهم من إنسانيتهم أو إعطائهم ملكة الطيران… الكتابة تقرّر كلّ ذلك في سلطتها التمثيليّة. قد تسمح لنا بأن نجد أصداء لأنفسنا في طيّات التاريخ، أو أن نتخيّلها في المستقبل، أو قد تمحينا تماما كأنّنا لم نوجد قطّ. سواء كنا نساء كويريات، عاملات جنس، عابرات، عاملات منازل ريفيات ومهاجرات، نساء ملونات، سمراوات أوسوداوات، تمّ تجاهلنا ومحونا عدا من كتابات نادرة وأخرى لم ترَ العالمية. إلى أن أتى يوم كانت سياسات التمثيل ملزمة بإضافتنا كالبهارات إلى الطبخة، أو كوسيلة لتحقيق مصير البطل الأساسي في تنافسيّته مع شخصيّاتنا، فالغاية تبرّر الوسيلة. وإن ساهمت شخصياتنا العرضية في تطوير البطل، فلا بأس بإضافتنا. ووجدت شخصيات غير نمطية طريقها إلى الفضاء العام المدوّن غالبا بلغات بلاد الشمال. 

لكننا لا نرضى بهذا القليل، ونبحث كنساء ملونات وجنوبيات وفقيرات وكويريات وعابرات ولاجئات عن قصصنا بين رفوف المكتبات وسطور النصوص وأبيات الأشعار في بلداننا. نبحث عنهنّ لنجد أنفسنا، لنعرف أنّ لدينا سلالة وتاريخا مكتوبا بأقلام عربيّة، تدوّن حيوات من مناطقنا الزّاخرة بالحميمية. نبحث عنه حبرا على ورق، نظرا لأنّ حكايا جدّاتنا أو تاريخنا الشفهي لا يثمّن في ظلّ الوضع الراهن كما تثمّن الكتابة، ويتمّ إقصائه على أنّه ثرثرة نساء. نبحث عن الشرعية، عن “أدلّة” طالما طُلب من النساء إحضارها لأنّ عبء البرهان يقع دوما على عاتق الأقلّ سلطة. كأنّ غياب البرهان ليس حجّة كافية على الاستضعاف التاريخي والتسكيت! خلال بحثنا عن أنفسنا في وجوه شخصيات رئيسيّة في روايات كتبتها أقلام متمحّصة في حيواتنا، غالبا ما نجد رغبة تلصصية في “كشف المستور” أو التعبير عن “الجرأة” أو نزعة استشراقيّة  ذاتية “منقذة” مؤمنة بوجوب ملء كلّ خانات الهويّات في الكتابة على سبيل “التنويع”… هوّيات قد لا تعنينا أصلا. نبحث عن صور هاربة من النمط السائد، تخفف من الظلم التمثيليّ ولو قليلا، ونأمل أن نجدها بأقلام النساء. هكذا بحثت – للكتابة في هذه الاصدارة – عن نساء أحببن نساء، جهرن بحبّهنّ أو أخفينه، لكنّه ترك آثارا مكتوبة. فوجدت كتاب “رائحة القرفة”  لسمر يزبك 1 على كلّ لائحة للكتابات الكويريّة من المنطقة، كأنّه منشور كلاسيكي. احتُفي به لدى صدوره باعتبار أنّه يفتح “عوالم مغلقة وممنوعة من الإشهار” كما ذكر غلافه والمراجعات الأدبية المتبنّية لكويريّته، أو خروجه عن النمط وعن المألوف. أمسكت الكتاب وقرأت الغلاف بتأنّ أكثر؛ هو عن “علاقة سيّدة دمشقية بخادمتها” حيث “تتحوّل هذه العلاقة إلى لعبة قويّة في يد الخادمة وتجعل منها المبرّر الوحيد لشعورها بإنسانيّة مفقودة”. قرأت الجملة، فانبعثت منها رائحة – لا للقرفة – بل للقرف. لم يكن “الحكم على الكتاب من الغلاف” من باب التهور، من الواضح أنّ الجملة التسويقية الملخصة له تعتمد سرديّة السلطة؛ سيدة برجوازية تمارس الجنس مع خادمتها وتفتخر أو تشكو أنّه يمنح الأخيرة الإنسانية!

   وأحيان أخرى تكون الكتابة عن الجنس بين النّساء فجّة وواضحة، أو جريئة كما يحلو للتقدميين تسميتها، في حين أنّها لا تتعدّى مساهمة سطحيّة في تسليع رغبات النّساء لقرّاء رجال يتخيّلون أجسادنا وعواطفنا متنفّسا لإرضاء تلصصهم الجنسي. وإن لم تُرضِ هذه الكتابات نظرة المتفرّج المحدّقة، قد ترضي الذوق الأخلاقي الرافض لهذه العلاقات باعتبارها غير شرعيّة ومنتهية بالدمار أو الموت أو الجنون. كأنّ لسان حال الكتب يقول: إن لم يكن هناك مكان للنساء الكويريات بين طيّاتها، فليس لهنّ مكان على سطح الأرض في مجتمعاتنا. توجد علاقات كويرية استغلالية، ويوجد الاغتصاب بين النساء، ويوجد جنس فجّ يسلّي المتلصص أكثر من تسليته أو إشباعه لممارسيه، ويوجد دعك مؤخّرة أفلاطونيّ، كما يوجد السمج والباعث على الغثيان، وآخر مرغوب وعدم مصرّح به. كلّه موجود، المجحف ألّا يوجد في خيالات الروائيين ولايخلّد في كتاباتهم غير هذا. 

لم تكن “رائحة القرفة” مختلفة. فقد اشتهرت بكون إشكاليّتها الأساسية علاقة حبّ بين سيّدة وخادمتها. قيل إنّ الرواية شجاعة في تصوير الحقائق بالتصريح لا التلميح، حقائق تتمثل في العوالم السحاقية الدمشقية المغلقة – على ما يبدو – تصوّرها الكاتبة “دون خجل”، كما تقول القراءات الاحتفائية. بيد أنّ الخجل الذي يحتفي القارئ بانعدامه لدى الكاتبة منسوب إلى عدم إخفائها ما كُني بعلاقات الحبّ المثلية بين النّساء، أو علاقة استغلال من الخادمة تجاه السيدة، لا الخجل الذي يجب أن يكتنفنا حين نسطّح العنف الجنسي والاقتصادي بثوب تسويقيّ من المساحقة، أو حين نشرّع لفكرة “الاستغلال العكسيّ” كالعنصرية العكسية، أو كره الرجال كمقابل لكره النساء، وغيرها من التّرهات. “من كانت عليا؟ خادمتها حقّا؟ من هي؟ تعرف أنّها كانت سيّدة هذا المكان، ولا تذكر متى انقلبت الأدوار بينهما.” يحملنا الكتاب لنستكشف الأسئلة الخاطئة، إذ أنّ الأسئلة الخاطئة موجودة رغم أنف الصوابية السياسية. 

لا شكّ في أنّ سمر يزبك تمتلك قلمها وأنّه يستجيب لها لتصوير أدقّ اللحظات التلصصية في بيئات محرومة وأخرى مرفّهة. لا شكّ أنّ معرفتها بالتفاصيل السياقية لتواريخ أحياء دمشق فائقة. لا شكّ في أنّ امتلاكها لملكة اللغة كامل. لا شكّ في أن شخصياتها معقّدة ومتعدّدة المستويات، وأنّ كتابتها شيّقة. الشّك هنا في قدرتها على إيفاء كلّ صاحب حقّ حقّه عند تصوير العلاقات بين النّساء، والعتب هنا هو في تصويرها لعلاقة استغلال سيّدة لخادمتها على أنها علاقة حبّ. 

كُتب هذا الحبّ المتوهّم بطريقة ملحمية؛ بين حنان الهاشمي (امرأة في منتصف العمر من أغنياء دمشق) وعليا التّي لا نعرف لها كنية واسم عائلة… فتاة نكرة اشترتها حنان لتخدمها. بل أنكى، بدا كأنه حب من طرف واحد، ظُلمت فيه حنان. هكذا – بطريقة عرضيّة – تمرُ الرواية على كون إحدى “العشيقتين” قد اشترت الثانية من أبيها كأننا في سوق نخاسة، وأنّ الثانية انتقلت إلى بيت سيّدتها طفلة. يتجاوز الكتاب هذه الأحداث ليقول لنا إنّ عليا تقوم باستغلال سيّدتها، وذلك في سبيل الحصول على “الإنسانية”. إذ تقول المُسَلّمَة الضمنية للكتاب والجملة التسويقية على غلافه ألّا سبيل للحصول على الإنسانيّة لعليا سوى من خلال مجامعة سيّدتها. وهي مُسَلّمَة طبقيّة بحتة، نظيرة المُسَلّمَة الذكورية التّي يتشدّق بها الرّجال الذي يقومون بـ”الاغتصاب العلاجي”، حين يقولون إنّ النساء المثليات يستمدن “السّواء” الجنسي من أيورهم. عليا فاقدة للإنسانية – على ما يبدو – وجسد حنان الهاشمي مركبة تحملها إليها، أو وعاء تتشكّل إنسانيّتها من خلاله. يتجلّى الانحياز للطبقة المرفّهة واضحا بتصديق الكتاب لهذه الفكرة المثمّنة للجنس مع من هم أغنى منّا وأعلى مرتبة كتسلّل طبقيّ وتحرّكية اجتماعيّة نحو الأفضل. وياليت ذلك الأفضل قد تُرجم إلى حساب مصرفيّ عامر بالأموال أو بحافظة نقود مكتنزة، في صفقة تجارية واضحة نستبدل فيها كدحنا الماديّ-الجنسيّ بمقابل ماديّ-ماليّ. لكنّ الطبقة المرفّهة تعتبر أنّ ممارسة الجنس معها في حدّ ذاته مكافأة كافية، إذ أنّها تعبر بنا من واقعنا المهمّش إلى الحصول على اكتفاء “وجدانيّ” وملذّات تكمل أرواحنا وشخصيّاتنا الناقصة، فنستمدّ “الإنسانية” من أيور وفروج البرجوازية. 

ألبست الرواية شخصيّة عليا ثوب سندريلّا، وأطنبت في إقناعنا بأنّ عليا تتحوّل – كأنّما بسحر – إلى ملكة تتربع على عرشها أثناء الليالي، قبل أن تعود خادمة في وضح النهار. (ص17) لكنّنا لسنا في حكاية خيالية تكون فيها حنان جنّية طيّبة وعليا سندريلا فقيرة، تتشاركان ليلة احتفالات قبل أن يأخذ الواقع مجراه، بل نحن في بيت لزوجين يستغلّان نفوذهما في اضطهاد الخادمة بكلّ الطرق الممكنة. “من كانت عليا؟ خادمتها حقّا؟“، تتسائل حنان الهاشمي مرّات عديدة كأنّها تُشرك القارئ في التفكير في هذه المعضلة التي حيّرتها. في حين أنّ الإجابة واضحة: حقّا كانت خادمتها. هي خادمتها المحبوسة في الحيّز الخاص، وفي أمّية شاء سيّداها أن يفرضاها عليها، إذ مُنعت عليا من الخروج من منزل أسيادها كما مُنعت من قراءة الكتب، (ص29) فذلك لا يليق بخادمة. انتبهت عليا بعد سنين من العمل لدى حنان أنّها لم تملك سوى ثياب الخدمة: هي لم “تملك سوى بنطلون من الجينز الأزرق، وقميص أبيض اللون. وعدا ذلك فكل الأثواب المحشوة بها خزانتها هي للنوم أو للخدمة في المنزل”. (ص30) لا عجب، إذ أنّ سيّدة عليا رسمت حدود حياتها في الخدمة المنزلية والجنسية.

لم تسمح عليا في طفولتها للصبيان بـ”دعك مؤخرتها”، في حيّ الرّمل المدقع في الفقر والمتربّص بفرص اضطهاد نسائه وأطفاله. ولم تكن الأمور الجنسيّة تغيب عنها، حين طعنت مغتصب أختها الكبرى المشلولة، ومغتصبها هي، في سنّ العاشرة. لن أفترض هنا أنّها كانت طفلة غشيمة حين اشترتها حنان. بل كانت عليا فطنة وقد دعكتها الحياة وتعلّمت كلّ فنون الدّفاع عن النّفس ونجت في كثير من الأحيان من العنف الجنسيّ المسلّط عليها كطفلة بين حاويات الزُبالة. لكنّها لم تنج من حنان الهاشمي وزوجها أنور “التمساح المتفسّخ”. لا أفترض هنا أنّ عليا قيدت إلى الجنس معصوبة العينين غافلة، ولا أنّها كانت “منبهرة بعوالم سحريّة” تختفي في فرج سيّدتها. بل قيدت عليا إلى كلّ ذلك عارفة، لكنّ معرفتها لا تعني نجاتها، ولا تعني سلطتها. فـ “المعرفة [ليست] سلطة” ما لم نمتلك السلطة نفسها، وهذا ما غفل عنه رجال كفرانسيس باكون، صاحب المقولة، وفريدريك نيتشه الذي ظنّ أنّ وجوده مستمدّ من تفكيره. هؤلاء عاشوا ضدّ الجدليات المادية التاريخية، ناسين امتيازاتهم، ومفكّرين أنّهم قد استمدّوها من ذكائهم الخاصّ؛ أنّ تفكيرهم نتاج عبقريّتهم لا تجاربنا المشتركة وموقعياتنا المختلفة، وأنّ سلطتهم الفكرية تترجم بالمادة، أي أنّ الفكرة تسبق المادّة لا أنّ امتيازاتهم المبنيّة على ظهور غيرهم خوّلت لهم نشر أفكارهم. ليست المعرفة سلطة – إذن – في غياب السلطة نفسها، رغم أنف الليبرالية التي تخبرنا أننا متى كنّا ذكيّات سننجح في امتحان الرّأسمالية ونعيش حيوات لائقة أو كريمة، وأنّ فشلنا هو نتيجة تقاعسنا وغبائنا، أو أننا متى درسنا سننجو من الاستغلال الجنسي على عكس الفتيات الأميات، كما يقول لنا طه حسين في دعاء الكروان. قد تجعلنا المعرفة قادرات على أن نتوقّع المآسي التّي ستطأنا، قد تسمح لنا بأضغاث ثانية نغمض فيها أعيننا احتسابا كي لا تُدنّس بالمصاب، أو نحاول امتصاص المرارة والمضيّ قدما كي لا ننكسر. لا أكثر. فنفعل ما علينا أن نفعله، ما يخوّل لنا سياقنا أن نفعله، لنحمي أنفسنا، أو مواردنا أو عائلاتنا. نُعنّف ولا نبلّغ، أو نُغتصب ونسكت. ولا لوم علينا ولا ادّعاء أنّ المعرفة تحمينا من كلّ ذلك. كون عليا لم تطعن حنان الهاشمي حين قادت الأخيرة أصابع الخادمة “إلى حيث ترغب” في حوض الاستحمام، وحين عبثت بجسدها وقبّلتها عنوة ثم طردتها حين اكتفت، ليس دليلا على وقوع عليا في الحبّ الملحميّ العنيف الذي تحاول الرّواية جاهدة أن تُبلعنا إياه فنستفرغه. يجوز أنّ عليا تستهويها النّساء، ويجوز أنّها قد تستمتع بالممارسات الجنسية بينها وبين سيّدتها، لكنّ ذلك لا يجعل الممارسة رضائية بطريقة آلية. تبلّغ الناجيات في أحيان كثيرة أنّهنّ لمن أنفسهنّ إن أحسّت أجسادهنّ بأي مسحة متعة عند الاغتصاب، فخلق ذلك عندهنّ صراعا بين القابليات النفسية والجسدية المتضاربة، وصرن يشكّكن في سوائهنّ ويستحين من الجهر بأن ما حصل لم يكن مرغوبا. وفي حالة عليا، موازين القوى لم تكن لصالحها، وهي تعرف جيّدا أنّ “كلّ ما عليها فعله هو أمر بسيط – الطّاعة” (ص44) في علاقة المخدومية مع حنان. وبالتّالي، فإنّ أقلّ ما يقال عن تصوير هذه العلاقة كـ “لعبة” في يد الخادمة الطفلة إنّه مستفزّ، إن لم يكن مسطّحا للعنف ومشرّعا له. نجت عليا إذن من الشوارع لكنّها لم تنجُ من المنزل، ذلك أنّ الشارع – رغم قسوته على النّساء والفقراء والأشخاص الكويريين – كان أكثر أمانا عليها من بيت مخدوميها. فالفضاء الخاصّ الذي نطلب فيه الأمان غالبا ما يكون أكثر الأماكن خطرا علينا. 

هوس حنان الهاشمي بعليا كذلك فوقيّ ومتسلّط، تفكّر أنّ غطاء رأسها البالي “مصدرا للجاذبيّة”، على سبيل الحلوى المغلفة أو الدجاجة غير المنتوفة أو البطيخة غير المقطعة. حنان تكشف الحلوى طبعا لأنّها تقدّمية لا تريد خادمة طفلة محجّبة، رغم أنّ حنان نفسها تستخدم وشاح رأس على ما يبدو، لكنّ رمزيّته تختلف، فتجد حنان حجاب عليا جذّابا كثمرة استوائية، بينما غطاء رأسها اعتياديّ لا يسيّل اللعاب. تارة تخبرنا أنّ وجه عليا “منحوت بدقّة وجمال أكثر ممّا يحتاجه وجه خادمة”، وأنّها معجبة بنظراتها التّي لا تشبه نظرات الخدم التي “تتراوح بين الحزن البليد والأسى الصبور”، وتارة أخرى أنّها سمراء هزيلة وسافلة و”متسوّلة قبيحة”. (ص14) في النّهاية، هي “خادمة لا أصل لها ولا نسب”. (ص21) كلّ هذا في مقارنة مع حنان، مركبة الخدم تجاه الإنسانية المفقودة.

يطغى “طعم الخيانة المباغت” على حنان الهاشمي، وقد قبضت على عليا متلبسة بالجنس اليدوي على “التّمساح المتفسّخ”. وحاولت إقناع القارئ في مونولوجاتها الطويلة أنّ عليا غدرت بها وبحبّهما. كون الفتاة “متسوّلة قبيحة”، يؤمن الراوي العليم وحنان سويّا، أنّ عليا لا بدّ وأن تكون قد أغرت الحيوان. فإن لم تنتصب قطعة لحمه الرّخوة رغبة في زوجته، كيف تنتصب لخادمة بشعة لو لم تكن بذلت كلّ فنون المكر في سبيل لحمة متهدّلة لرجل عجوز؟ أسئلة عبقريّة فعلا تطرحها الرّواية، إذ لا احتمال آخر يرد لتفسير المعضلة، سوى ذكر عابر لبرطمة عليا بسخرية بعد طردها كلمات أمّها: “ظلّ راجل ولا ظلّ حيطة”. ذلك الرجل-الحائط، أنور، كان جاثما على صدرها بثقل، كزوجته، ويخال اثناهما أنّهما بريئان. وفي حين تصبغ الرواية علاقة حنان وعليا برومانسية مفتعلة وحبّ مزعوم، تعتبر العلاقات الجنسيّة بين النّساء شيئا من اثنين؛ إمّا “شغفا وانجرافا حارقا” إن كان بين نساء من ذات الطبقة، أو قابلا للكبّ. تلخّص حنان علاقتها بعليا، بعد دائرة مفرغة من إيهامنا بوجود مشاعر ما، عندما تقول لنفسها: “هي مجرد أصابع، استبدليها بغيرها” (ص22)، معيدة عليا إلى مكانها الحقيقي، حيث تستغلّ الطبقة العاملة وتُذكّر يوميّا أنّها قابلة للاستبدال. هذه الرّواية ليست عن نساء يحببن نساء، بل نساء يستغللن أخريات. فليس أنور التّمساح المتفسّخ الوحيد في الرّواية، بل تجاريه حنان في تفسّخه.  

في فعل الكتابة الروائية، يـ/تتملّص الكاتب/ة أحيانا كثيرة على أساس مسلّمات ضمنيّة، أهمّها أنّه/ا محايد/ة ومعصوم/ة من تبرير الأحداث، لأنّ الفنّ لا يبرّر وهو ينقل تجربة واحدة فريدة، ولا يتحدّث بالضّرورة عن تجارب الجميع، وذلك لسببين: الكتابة الإبداعية كمخرج لنسب الكاتب/ة وكالته/ا الفكرية في مضمون النّص إلى “الالهام”، أو الكتابة الواقعيّة كأن يقع التملص من خلال لوم “حقائق الحياة”. لا تقتصر أسطورتا سيطرة الإبداع على المضمون والتزام الكاتب/ة بالحقائق على تحصينه/ا من النّقد، بل تتجاوز ذلك إلى نشر قيم سياسيّة ومجتمعيّة تعيد صبّنا في قوالب جاهزة، قائلة شيئا من اثنين: هذه تجربة واحدة فريدة من وحي الخيال ليس الكاتب مجبرا على تبريرها أو تمثيلها بطريقة غير نمطيّة، أو هي تجربة واقعيّة ينقلها الكاتب بأمانة… فـ “صه”. الإشكالية في رائحة القرفة ليس كونها تتناول شخصيات أو علاقات قد تكون مثلية، وليس الغضب الناجم عنها متعلّقا بتفكير طهرانيّ عن هكذا علاقات، أن لا استغلال فيها. على العكس تماما، لسنا ملزمين كأشخاص كويريات أو فقيرات أو ملونات بإنتاج قصص حبّ بريئة ونظيفة تعجب الذائقة العامة وتكون خالية من العنف والابتزاز واللابطولة. ومن الممكن والضروري أيضا الكتابة عن علاقات كويرية استغلالية. اللغط هنا في أمرين: تصوير رائحة القرفة لعلاقة استغلال على أنها علاقة حبّ، واحتفاء الجمهور بهكذا كتابة تحرّرية، والأنكى اعتبارها حليفة للكويريين ومصوّرة لعوالمهم. باختصار، ليست الكتابة تحرّرية ما لم تحرّرنا.

 روي الجذور

Share Button

بحْثًا عن رغْبة كويرية: رسالة لأليفة رفعت


بحْثًا عن رغْبة كويرية: رسالة لأليفة رفعت pdf

كتابة: هند ونادين 

ترجمة: سماح جعفر

هند ونادين كاتبتين كويريات من الإسكندرية، وهن أيضا محررات ومترجمات. 

 

“تضج الحياة بالألغاز. قوى غير مرئية في الكون. عوالم أخرى غير العالم الذي نعرفه. روابطٌ خفية، وأشعةٌ تجذب الكائنات لبعضها، ويتداخل تأثيرها. يمكن أن تندمج معًا، أو أن تكون غير متوافقة مع بعضها. يومًا ما، يمكن للعلم أن يصل إلى وسيلة تربط كل العوالم، مثلما استطاع العلمُ أن يجعلَ من السفر إلى كواكب أخرى حقيقةً ممكنة.. من يعلم؟ 1” – أليفة رفعت

 

عزيزتي أليفة/فاطمة 2

لقد كنت أبحث عنكِ، عن حكايتكِ، أجمع السرديات المختلفة معًا. تارَةً أبحث بعجالة، باندفاع حتى، كما لو أن حياتي تعتمد على الأمر. وتارَةً أبحث بِدِقّة، أفكك الصفحات والكلمات والحكايات، كما لو أنني أبحث عن نفسي، عما يشبه المعنى في “عالم مَجْهول”.

حين اعترفتُ لنفسي أنني أحب صديقتي المفضلة “صَفِيّتي” واعَتَرفَت لي بدورها، وجدتني أبحث عن حكايتنا في كل مكان؛ في حكايات الآخرين، وفي الروايات والأفلام. بدا الأمر كما لو أنني أبحث عن مَوْطِن أو نعيم أو مكانٍ آمن أو تاريخ مشترك شائِع مع نساء مثلنا… نساء أحببن نساء.

كنت أبحث باهتمام، أقرأ بين السطور، كما لو أنني أعيد كتابة قصص الآخرين في مُخيلتي، أقبض المعاني، وأخلق شيئًا من لا شيء.

قبل بضعة أعوام، عادت أختي إلى المنزل بمجموعة من الكتب المستخدمة التي اشترتها. كنت أبحث عن شيء خفيف لأقرأه. وجدت كتابًا هزيلًا، وهي مجموعة قصصية باللغة الانجليزية عنوانه “بعيدًا عن المئذنة” كتبته أنتِ. لأصدقك القول، فإن شكل الغلاف والتعريف في مؤخرة الكتاب كان بهما نمط اسْتشراقي أصابني بالغثيان. استُخدِمت في مقدمة المترجم كلمات مثل “رفعت الخمار” و”المجتمع الإسلامي التقليدي” و”الأصالة المميزة”. بدا الأمر كما لو أن عالم أنثروبولوجيا يحدق خلال عدسة مكبرة موجهة نحو مجتمعات غير بيضاء. على كلٍ، كان لدي القليل من وقت الفراغ، وفكرت “لمَ لا؟!” 

ثم في واحدة من قصصك، في أكثر مكانٍ مستبعد بينها جميعًا، وجدتُ أثَر رغبة مَألُوفة ومُتَعَاظِمة وعاطِفِيّة في الخفاء. كانت للشخصيات أسماء عربية. دارت أحداث القصة في منزل على ضفاف النيل في المنصورة. حدثت القصة في هذا البلد. هنا. في الوطن. امرأتان. تشتهيان وتحبان وتزفران لَذّة. رأيت القليل مني في كلتيهما: الإنسية، الزوجة الوقورة لمسؤول حكومي، التي يراها المجتمع بطريقة معينة، وتحس بارتباك داخلها. والمرأة الأخرى، الحَيّة، الجِنية، التي تتسلل جيئة وذهابًا خلال فَجْوَة خفية في الحائط. تختفي قبل أن يلمحها الآخرون. متخَيلة لكنها مَحْسُوسة ومُتَنَفسة وحقيقية.

أنا مَأخُوذة بعالم شخصيتك الأساسية. تمُر الأشهر، لكننا بالكاد نعرف الأحداث الخلفية. عوضًا، أنا مأخوذة – كما هو حال شخصيتك الرئيسية – بعلاقة الحب مع الحَيّة التي ظهرت لها ذات صباح مشمس في الحديقة. علمتُ أن لديها أطفال، لكنني لم أتعرف عليهم. يُلمَح زوجها في الخلفية فقط، وهو السبب وراء انتقالها من القاهرة إلى المنصورة. في بعض الأحيان يكون مصدرًا للذنب. حين تتوق إلى رؤية الحَيّة، يدفعها الذنب لإخبار زوجها عن وجودها، ما يدفعه إلى الصعود إلى الفجوة في الجدار حيث ظهرت الحَيّة أول مرة. أنت لم تمنحيها هي أو الحَيّة أسماءًا أبدًا. تعرفان بعضهما باسم “المحبوبة” فقط. تنزلق بطلتك من وإلى هذه العوالم: تقضي نصف اليوم في تَأثِيث منزلها والنصف الآخر تستهلكه في علاقتها مع محبوبتها الْجِنية الحَيّة.

أنا أيضًا كالحَيّة، أنزلق من عالم إلى آخر. بين عالم مُسْتَتِر وآخر مَنْظُور. جسدي مفقود في أحد العوالم، موجود فقط بشكله المادي، يؤدي الواجبات والتوقعات المجتمعية. لكن في الآخر، أتكشف وأتحقق، اسْتجلى معالم الرغبة. تصورين انقسامًا حادًا بين العالمين، حَيْث العالمين خاصّتِي يتصادمان دائمًا، وأصبح غير قادرة على التزام المُسْتَتِر أكْثر فَأكْثر. تصبح الفجوة المتبقية بين العالمين مُشْبَعة بالغضب والمرارة. أفكر في ذلك اليوم، جالسة في الحمام، أبكي بفؤاد منكسر عقب محادثة ثقيلة على الهاتف مع حبيبتي. ماما في الخارج تُدندن، ساهية عن ألمي. أكافح لأكون حاضرة، لأتظاهر أنني بخير. أنا منهكة، هل أحسستِ بالشيء ذاته؟

أكنت ممزّقة بين عالمين حين قررت اعتماد اسم “أليفة”، في محاولة – كما قرأت – لتجنيب أسرتك خِزْي تعريفك كامرأة تكتب عن الجِنْسانِيّة “دون خجل”؟ كيف التقى عالماك وكيف تباعدا؟

بعض الأشياء تبدو سهلة عندك. تعايش الدين والرغبة في نفس العالم. تصورين حبًا مُتَحابكًا بآيات من القرآن. الحَيّة الْجِنية تظهر بـ “أكثر شكل مُتْقَن للجمال”، شكل امرأة، تحمد الله وفي نفس النفس تفخم مزايا حبيبتها. أخبروني دائمًا أن الإيمان والرغبة، لاسيما الرغبة الكويرية، لا يمكن أن يمتزجا. قدر لهما أن يكونا على جانبين مُتقابلين من حلبة الملاكمة، يخوضان صراعًا شرسًا وأزَلِيًّا. أنْ أرى تصورك عن “الحب الحلال”، الذي باركه الله تعالى نفسه، حب لم يهز عرش الرحمن، هزني ذلك حتى النخاع. أنْ أرى النَّيْك كتَغْذية وليس خطيئة، كشيء مقدسٍ، وليس إثمًا، كان تَجَلّيًا.

لكن جزء مني طمعان. جزء مني يتمنى لو أن الْجِنية اتخذت شكل امرأة بشرية ذات جلد ناعم، وشفاه دافئة، وأعين ساغبة. جزء مني يتمنى لو أنها لم تأت من “عالم المجهول”. لو أنها عوضًا جاءت من واقع مَلْمُوس وفوضوي. امرأة بالإمكان لمسها، شمها، تذوقها. لكنني أفهم أنك ربما كنت مقيدة. ربما كانت هذه هي الطريقة الوحيدة لتُصوٍّري امرأتين متحابتين.

ربما يمتد المجاز إلى أبْعَد من جسد الحَيّة كمجهول. ربما كنت تتحدثين عن جسدك. خلال نشأتي، بدا جسدي غريبًا عليَّ. دخيلًا حتى. عندما ألمس نفسي، كانت طبقة من الملابس دائمًا تفصل الأصابع عن الجلد. كلانا أتت من مجتمع لا يشجع استكشاف الذات. أشعرتِ بنفس الشعور؟ أقلصتِ التضاريس الشاسعة لجسدك بحيث لم تعد مرئية بسهولة؟ أتعجبتِ وارتعدتِ في آنٍ من البلل بين ساقيك، قوس وركيك، واستدارة ثدييك؟ ربما على إحدى النساء أن تكون حَيّة، حتى تتمكن من توجيه أصابع عشيقتها إلى كل ركن من جسدها، لتنزلق عبر كل نتوء على جلدها، لتعلمها كيف تقرأ وتحب نفسها. ربما الحَيّة هي المرأة، والمرأة هي الحَيّة. من تعرف؟ أتمنى أن تخبريني. لم أكن معجبة أبدًا بالغموض. سوف أصنع لك كوبًا من الشاي بلبن، وأحضر علبة من البسكويت، ويمكنك أن توضحي كل مقصد وخيار اتخذتهِ.

لقد تُقت لقراءتك باللغة العربية، تخيلتُ كيف سيكون الأمر لو كبرتُ على قراءة قصتك وقصصٍ تشبهها، لو لم يتم محوك أو بَتَرِك. بحثتُ عن النص الأصلي في المكتبات، على الإنترنت، لكن في كل مرة أسأل كان الناس يسألون بحيرة: “من هي أليفة رفعت؟ أهي كاتبة جديدة؟” اكتشفتُ أنك معروفة جيدًا في بلدان أخرى فقط. غالبًا ما تُقرأ كتبك باللغة الانجليزية بتكليف من دور نشر تفضل النمط الاستشراقي. شعرت وكأنني فقدت شيئًا من جديد. تعلمت منك، لكنني لم أجدك. وجدت قطعًا متفرقة منك هنا وهناك. مقال يصف أعمالك بأنها “جَدليّة”، ومقال آخر عن حياتك (أو ما هو معروف عنها)، من تزوجتِ، متى ولدتِ، أين عشتِ. ما أردته هو مذكرات لأفكارك، فرضياتك وآمالك، بكلماتك، وليس مجرد قوائم تواريخ وأسماء.

لكن من كنتِ؟ لقد قضيتُ وقتي في اختلاق قصص. هل كانت لديك حبيبة متخفية كـ “صديقة مفضلة”… قصة تشبه قصتي. هل اشتهيتِ، أحببتِ، رغبتِ في امرأة. أتمنيتِ قصة مختلفة، شيئًا يتجاوز واقعك المباشر؟ ألهذا كانت الطريقة الوحيدة التي تمكنت بها من تخيل حب امرأة توجب على تلك المرأة أن تكون من واقعٍ موازٍ؟ عالم يتجاوز حياتك اليومية المباشرة.

ما زلتُ ألعب لعبة التخمين والكتابة، وأُعيد كتابة قصتك. أفعل الشيء ذاته مع نفسي، أمحو وأُعيد الكتابة، أتمزق بين المُسْتَتِر والمَنْظُور. حربٌ بين العوالم التي بناها الآخرون، والعوالم التي خلقتها لنفسي.

عندما كنت صغيرة، تخيلت أن هناك صندوقًا داخليًا كنت بحاجة لملئه. في محاولة لمعرفة من أنا، بحثت عن أشياء هنا وهناك، أشياء صغيرة ارتبط بها. كنت أحاول إنشاء أرشيف يساعدني على فهم العالم. حاولت ملأه بقصص أستطيع لمسها ورؤيتها وشمّها. قصص أستطيع أن أتنفسها بألفة. حاولت ملأه بقصص أنيقة، تتناسب معًا، متسقة، لكن في النهاية، ملئ بالتناقضات والفوضى.

 أنا عالقة مع هذا النص، ترجمة لقصة كَتبتِها بنفس اللغة التي نشأت عليها، تذكير لما تُرَجِم وما مُحِي.

أتساءل أين أنتِ الآن. آمل أنه عالمٌ دون أسماء مستعارة، أو خوف أو ذنب. عالم مألوف أكثر من ذلك المجهول.

جَمّ المحبة والسلام لكِ.

 

قارئة

 روي الجذور

Share Button

مقدمة اختيار

بدأنا مشروع هذه الإصدارة منذ شهور فقط، لكن يبدو لنا من مكاننا اليوم أنها كانت حياة أخرى، عالم بعيد تماما، انقلبت أحواله وقلّبتنا بعنف، قبل أن نعتد أوضاعنا الجديدة. يكفي تأريخ الإصدارة بالعام ٢٠٢٠ لتستدلين على ما مررنا به، محررات وكاتبات ومترجمات، خلال فترة إنجاز مشروعنا (الرومانسي) المشترك. بقدر ما فُرضت علينا أسئلة ملحة وصعبة هذا العام، عن السياسة والعدالة والثورة والصحة العامة الإنتاج والامتيازات الطبقية والعنف الجندري، بقدر ما ظللنا متمسكات باستكمال مشروعنا. 

تضم إصدارتنا كاتبات وشعراء نسويين/ات من مصر ولبنان والجزائر والسودان. على المستويين العام والشخصي، واجهنا – كما واجهتُنّ – آلامًا وصراعات كبرى في لحظة زمنية مكثفة، غالبا سنقضي سنوات عدة لاستيعاب ما حدث بها والتعامل مع أثره. وباء عالمي، عزل وعزلة وتغيير أنماط الحياة والعمل اليومية والعلاقات الأسرية، ثورات وأزمات اقتصادية وحرائق وانفجارات فساد مدمرة، كلها حدثت لنا أو بالقرب منّا بدرجات مختلفة. اختبرنا الفقد وآلامه بموت ذوينا ومعارفنا بمرض لعين مباغت، وانتحار رفيقاتنا الأكثر هشاشة في مواجهة اكتئاب اللحظة. فقدت إحدى كاتباتنا أباها ثم عادت بعدها بأيام للتواصل معنا، واستقبلت الثانية تعليقاتنا التحريرية وهي تنتظر بجانب أمها بالمستشفى حتى التعافي، وتعرضت أخرى للاحتجاز على هامش أحداث ثورة محبطة واعتذرت عن المشاركة، ثم عادت لتنضم إلينا مع أول فرصة للتنفس. تختفي المكلومة أيامًا أو أسابيع، ثم نعاود التواصل والمناقشة والكتابة والبوح. كم نحن، محررات الإصدارة وفريق اختيار الأكبر، ممتنات لكل كاتبة ومترجمة ورسامة شاركت معنا رغم وطأة الظروف وأعطت جزءًا من روحها ووقتها لإنتاج هذا المنتج المعرفي الجاد والمسلي بنفس الدرجة، لعله يمنح قارئاتنا شيئا قيمًا يحملنه معهن ويتخففن به وسط أجواء انهيار العالم. فخورات بكن إلى أبعد حد. 

تفتح هذه الإصدارة نقاش حول الهوية والأدب.  نبحث عن إمكانية وجود أدب نسوي، تحرري، كويري، قادر على كسر حالة هيمنة التصورات الأبوية والمعيارية الغيرية على أدبنا العربي. نتسائل عن ماهية هذا الأدب وكيف ترسى معاييره وترسم سياسات التمثيل به. لهذا السبيل، ندقق النظر في أعمال أدبية نرى فيها ملامح وجوه وأجساد مألوفة لنا، وانعكاسات حيوات ورغبات وروايات غالبًا ما تهمش وتمحى وتنكر علينا. نبحث عن جذور، عن تاريخ. أو نصنعهم بكتابات جديدة طازجة. 

لطالما كان الأدب منجم الهويات المفقودة والمخبأة والهاربة. نرى فيه أناسا يشبهوننا ولو في تفصيلةٍ صغرى، اعتقدنا أننا فريدات في حملها ووحيدات في تخبئتها. نتلصص على حياة أبطال القصة والقصيدة أملًا في أن نجد أثرٍا لشيءٍ ما يمثلنا، أن نجد في كلماتهم ما يصف مشاعرنا المعقدة التي عجزنا عن إعلانها مهما حاولنا مرارًا. أملا في ألا نكون وحيدين ولو لعدة ساعات أو دقائق. نبحث فيما بين السطور عنا، ننبش نبشًا، نزيل طبقات اللاوضوح التي تفرضها الرقابة على الكاتبات والكتاب، لنجد أسفلها رسائل تلمسنا.  نأمل أن تأويلنا للنص لم يذهب بعيدًا جدًا عما أرادته كاتبته، أن نكون قد عبرنا جسر التواصل الانساني وفهمنا النصوص المضمنة والرسائل الخفية وراء النص. ثم ماذا إن ذهب، هو تأويلنا وهي قراءتنا.

  فعلان نناقشهما هنا؛ فعل الكتابة وفعل القراءة، وما يمثلانه للهوية، هوية من تكتب وهوية من تقرأ. تركت لنا العديد من الكاتبات والشاعرات والمنظرات – عادًة النسويات – أعمالًا كتبن فيها عنهن وعن مشاعرهن تجاه نساء أخريات، مشاعر لم تكن بالضرورة مشروعة في مجتمعات أبوية تخاف النساء وطاقاتهن. كتبن بشكل مراوغ عن العالم، عالمهن هن، عن التجارب المخفيّة، وعن تلك الأصوات الداخلية عالية الصوت، ودسسن العديد من الأسرار المضمنة في النص؛ أسرار عن الهشاشة، والقوة، واستراتيجيات العناد والمقاومة. أسرار تبوح بهويتهن، لكنها تتخفى من مقص الرقابة، وتستقبلها فقط من تفهم تلك الأسرار وتعيشها. تلاعبن بالاستعارات بأشكال مختلفة لترسمن لنا علامات الطريق، لأولئك اللاتي قيل لهن مرارًا وتكرارًا أنتن مجنونات، هستيريات، مرضى، شواذ! نصغي  للسطور منتبهات لكن معنى خفي ومقصد مشفر  باحثات في مرآه الأدب والتاريخ، كارهات لما تعكسه احيانًا من  فراغ ولا شئ سوي الفراغ! يكتبن فتتنفس هوياتهن المقموعة، نقرأ فتتنفس هوياتنا. نبحث في تلك القصص والمذكرات والخطابات عنا؛  نحن العاديات، الحقيقيات، اللا بطلات، من لم نخلق من وهم الرجال في صورة  منحصرة  في التضحيات والعطاء غير المشروط.  لسنا فاتنات أغانيهم وحسب،  لسنا ملائكة ولا شياطين، وبالتأكيد لا تنحصر هوياتنا في كوننا أمهات وزوجات وبنات أحدهم. 

في بداية الإصدارة نعرض قراءات تحليلية، إما مراجعة لعمل أدبي شهير أو اشتباك مع حياة وأعمال كاتبة بعينها. في بعض هذه الكتابات تنسج الكاتبات مقالات بين النقد والشعر والرواية الشخصية، وكأنما يُقِمن حوارات تقن إليها كثيرًا مع كاتباتهن المفضلات. رسائل مرهفة وحساسة وشخصية للغاية، ولا تخلو أبدًا من السياسة. يلحق ذلك في الإصدارة كتابات أدبية وشعرية كويرية عربية، ننشرها ونحن مؤمنات بأهمية كسر حواجز النشر العديدة والمشاركة – ولو بتواضع – في إتاحة مساحات للنشر الأدبي أكثر تحررا ورحابة للجميع. نختتم الإصدارة بنص مترجم ملهم، يجمع ردود كاتبات نسويات ومثليات  على سؤال “لمن تكتبين؟” لنستمتع بقراءة أدمغتهن واستراق نظرة على جمهورهن المتخيل، ولنتعلم عن غنى تجربة الكتابة، – لا سيما الكتابة النسوية – من كاتبات سبقننا بأربعة عقود في جغرافيا بعيدة ببلاد الشمال. 

نحب ختامًا أن نرسل تحية واحتفاء صادق لنصوص لم تولد بعد، وُئدت قبل ميلادها، أو ولدت وخُبئت، أو فقدت صاحبتها صلتها بها قبل الأوان. نصوصٍ كان من المفترض أن تنضم للإصدارة، استلمنا أفكارها وآمنا بها، لكنها لم تنجح في أن تتطور لمسودات مكتملة بعد. نأمل أن نراها يومًا ما منشورة ومقروءة ومؤثرة. قد يكون الاحتفاء بنصوص لم تكتمل ولم تنشر غير تقليدي. قد يرى البعض أن هذا الاحتفاء لا مكان له ضمن مقدمة إصدارة ويأخذ من مساحة تقديم نصوص اكتملت بالفعل. لكننا نعارض. ندرك أننا نعاني من تمييز وعنف بنيوي ممنهج، يستنزفنا ويسرق منا طاقاتنا وأوقاتنا. يهددنا طوال الوقت بعقوبات قصوى، مجرد تخيلها يحثنا على قتل خيالنا بأنفسنا قبل أن يأخذ براحه ويبوح ويعلن عن نفسه وعنّا. كم من امرأة أرادت أن تكتب ولم تكتب؟ كم من نسوية، مثلية، مزدوجة الميول، عابرة وعابر جنسيًا، تملكت منه/ا شياطينها أو شياطين الآخرين ومنعتها من التعبير عما تراه؟ هل نفكر حين نبحث إمكانية إنتاج أدب كويري وخلق مساحات، لنشره وتوزيعه في تقاطعات الطبقة والعرق والجندر؟ أن نسأل بصدق وجدية: لما لا نقرأ لعدد أكبر من كتاب وكاتبات فقراء؟ داكني البشرة؟ لا ينتمون للمعيارية الغيرية؟ هل لانعدام وجودهم أم نضوب موهبتهم أم لأنهم كسالى؟ أم لأسباب أكثر بنوية وتجذرًا وتعقيدَا من ذلك؟ نرى أن مناقشة كهذه تقع في صلب موضوعنا. 

أن نكتب، أن يكن لنا صوت ووجود وحضور وحاضر وتاريخ موثق. أن يُمحي كل هذا، هو أن نُمحى نحن، وأن تُحرم أجيال قادمة – كما حُرمنا – من أي صلة بجماعة بشرية تشاركها همومها وطموحاتها. أن تعاني كل منهن كما عانت كل منا سنوات دون أمل أو رغبة في حياة زائفة ندعي فيها غير حقائقنا. نكتب لنروي حقيقتنا، لتحظى روايتنا، أو رواياتنا المتعددة، بمكانها المسلوب من واقع مجتمعاتنا وتاريخها. نكتب لنروي بقايا جذورنا التي اجتزّت وتُجتز أمام أعيننا كل يوم بشكل ممنهج، كي لا تُنبت لها نبتة. يمنعوننا… وإن قاومنا المنع يمحون أثرنا الذي تركناه. نكتب وننشر لنحيي الأثر، ولأننا بالأساس لا نرضى بغير أن نبقى ونرسّخ جذورنا. 

فريق التحرير

Share Button

روي الجذور

تفتح هذه الإصدارة نقاش حول الهوية والأدب.  نبحث عن إمكانية وجود أدب نسوي، تحرري، كويري، قادر على كسر حالة هيمنة التصورات الأبوية والمعيارية الغيرية على أدبنا العربي. نتسائل عن ماهية هذا الأدب وكيف ترسى معاييره وترسم سياسات التمثيل به. لهذا السبيل، ندقق النظر في أعمال أدبية نرى فيها ملامح وجوه وأجساد مألوفة لنا، وانعكاسات حيوات ورغبات وروايات غالبًا ما تهمش وتمحى وتنكر علينا. نبحث عن جذور، عن تاريخ. أو نصنعهم بكتابات جديدة طازجة

(PDF) لتحميل وقراءة الإصدارة كاملة

Share Button

جاين

 

جاين  (PDF) 

كتبت: روث سيرجال، واتحاد تحرير المرأة في شيكاغو

 

هذا المقال مقتبس من مقابلة أجرتها بيكي كلوشين في عام ١٩٩٩

 

ترجمة: نُهير عماد 

بعد مرور وقتٍ قصير على اصطدام روث سيرجال المرتبك بالأفكار النسوية، مرت بلحظة فارقة، أدركت فيها أن تحرير المرأة أمر منطقي تمامًا. خاضت سيدات كثيرات تجارب مشابهة في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. لكن بالنسبة لروث، كان الاستماع إلى لقاء إذاعي في عام ١٩٦٩ مع مارلين ديكسون – وهي أستاذة بجامعة شيكاغو أُقيلت من عملها نتيجة لمجاهرتها بدعمها لحركة تحرير المرأة – هو ما شكل فارقًا حقيقيًا.

ورغم أن روث كانت إحدى المشاركات في الحركة المناهضة للحرب على فيتنام، إلا أنها شعرت بالحاجة إلى فعل شيء آخر. تقول: «كنت أبحث عن شيء مختلف لأنني لم أكن مستعدة لأن يُلقى القبض عليّ بسبب مشاركتي في الحركة المناهضة للحرب. ليس لأنني لم أهتم بأهدافها، لكن لأنها لم تكن معركتي الشخصية بأي حال من الأحوال. وكنت أعرف أن حركة المرأة هي معركتي الحقيقية، وأنني مستعدة للتضحية بكل شيء في سبيلها، حتى لو أُلقي القبض عليّ (وهو ما لم يحدث في نهاية المطاف). لكنني ذهبت إلى ذلك المنزل، ورأيت نشاطات مختلفة، وكيف نظمت القائمات عليه أشياء متنوعة. 

وجدت هناك جمعية اتحاد المرأة، وحضانة نهارية، وبعض الرياضات، وصحيفة، وخدمة استشارية خاصة بعمليات الإجهاض. ولأنني كنت باحثة اجتماعية، وكنت أعرف عن مبدأ التدخل في الأزمات، كان هذا بالضبط ما فعلته. لم يكن اهتمامي بقضية الإجهاض هو السبب الوحيد وراء مشاركتي في الخدمة، بل لأنه كان مجال عملي بطبيعة الحال».

دشنت جاين خدمة إحالة، لكن بالنسبة لروث والأخريات كان التعامل مع منفذي عمليات الإجهاض من الذكور تجربة منهكة جدًا. كانوا يُعصبون أعين النساء، ويجرون العمليات بأسعار باهظة في غرفٍ فندقية سرية، وكان هناك شعور ملح لدى النساء بأنهن بحاجة إلى التحكم في سير العملية لا الرجال. في النهاية، استقرت الخدمة على اختيار واحد منهم، بدا أكثر مرونة عن البقية. وبعدما ادعى كونه طبيبًا، أصبح معروفًا في هذا المجال باسم «مايك». ولم يشكك أحد في خبرته المهنية بصفته منفّذا لعمليات الإجهاض، لكن تبين لاحقًا أن مايك لم يكن طبيبًا من الأساس. 

وتحكي روث عن جلساتها وجودي بارسنز للتفاوض معه: 

«ذهبت كل منا للتحدث معه بمفردها. رفض الحديث مع كلتينا في جلسة واحدة لأنه شعر بأننا ندبر له مؤامرة ما. لذا ذهبت أنا للتحدث معه أولًا. ولم أنجح في الوصول إلى اتفاق معه، في حين تمكنت جودي من إقناعه بخفض تكاليفه، وكانت أكثر حسمًا مني. أصبح مايك وجودي صديقين مقربين جدًا بعدها، واستمرت صداقتيهما سنوات».

وفقًا لروث، كانت شخصية مايك معقدة، تصفها قائلة:

«كان نصابًا، بالمعنى الحرفي للكلمة. أثناء الأيام التي قضيتها في الخدمة الاستشارية، كونت انطباعًا عنه أنه أكثر رجل متحيز جنسيًا قابلته في حياتي. كنت أتحمله بالكاد، وكان التعامل معه مستحيلًا. هذا ما شعرت به؛ بأنه أكثر الرجال تحيزًا، وكان لا يتردد في إظهار ذلك. كانت شخصيته مركبة للغاية، وأظن أنه لم يقابل في حياته شخصًا كجودي، لم يكن هناك شخص مثلها، أو مجموعة مثل مجموعتنا عمومًا.”

نشأ مايك في بيئة عنيفة للغاية، كان معظم أصدقائه إما في السجون، أو لقوا حتفهم. وكان يعيش بمبدأ: اعتنِ بنفسك أو سيفتك أحدهم بك يومًا ما، وأن على المرء أخذ حذره طوال الوقت.

كل ما رآه مايك فيَ هو أنني خائنة و«عصفورة»، لأنني كنت الشخص الوحيد الذي أصر على أن يكشف للجميع أنه لم يكن طبيبًا حقيقيًا. غضب بشدة؛ صاح وصرخ ولم يتمالك نفسه، وشعرت أنا بالسوء. عاد مايك إلى كاليفورنيا، واتصل بي ذات مرة واعتذر. كان آسفًا بصدق. كان شخصًا معقدًا… جدًا.

وأثناء عمل مايك لدى جاين، علّم العضوات الأخريات أسلوبه في إجراء عمليات الإجهاض. وكلما ازداد عدد النساء اللواتي تعلمن طريقته، توقفت عادة عصب عينيّ العميلة، وانخفضت تكاليف العملية. دربت كل امرأة دربها مايك نساء أخريات، لذا بعد رحيله، أصبح مجمل الفريق العامل لدى جاين من النساء». 

كانت الخبرات الطبية داخل جاين من الناحية التقنية جيدة جدًا، لكن العاملات بها شعرن بأن المعرفة التقنية ليست كافية. كانت السيدات اللواتي يسعين إلى الخضوع لعمليات إجهاض بحاجة إلى الشعور بأنهن جزء من العملية نفسها. ومع أن تعبير «تمكين المرأة» كان قد أصبح كليشيهًا سياسيًا مهترئًا وقديمًا حينها، أخذت جاين الفكرة بجدية. تعلمت الاستشاريات وموظفات الاستقبال الإنصات إلى العميلات بحرص، فكان ما لا يُقال مهمًا بقدر ما يُقال. تشجعت النساء على الحديث عن أنفسهن وحيواتهن، وكن يتحدثن عن تحرير المرأة، وكيف كان المجتمع ينتظر منها دائمًا أن تكون جذابة ومرغوب فيها، ثم يعاقبها إذا حدث وحملت من أحدهم. كذلك تشجعت النساء للحديث عن تجاربهن الشخصية مع الأطفال والحمل والإجهاض. أرادت جاين شرح تجربة الإجهاض من الألف إلى الياء حتى تقرر النساء ما يردنه بحكمة. 

وتابعت روث: «كانت إحدى النقاط التي تحدثنا عنها بكثرة هو أننا لم نكن نفعل شيئًا بالعميلة، بل كنا نفعله معها. كانت كل منهن جزءًا من التجربة، ومن الإجراء نفسه، مثلهن مثلنا. لذا كنا نتحدث عن أننا نعتمد عليهن في ألا ينكشف أمرنا. كنا نشرح لهن أننا من يخالف القانون – لا هن – لكننا بحاجة إلى مساعدتهن. يجب ألا يتحدث أحد عن الخدمة، وأن يكون حريصًا على الكتمان. صحيح أن كل هذه السرية أمر شديد الصعوبة، لكن هذا ما علينا فعله. وكانت السيدات متفهمات إلى حد كبير». 

تكونت جاين من مجموعة متنوعة من الأشخاص، واختلف أسلوب كل واحدة منهن: 

«بعضهن كن مهتمات بالسياسة أكثر من أخريات، وكن قادرات فعلًا على إدارة مناقشات سياسية محكمة. بينما كانت أخريات هادئات، قادرات على خوض مناقشات ودودة ولطيفة. اعتمد الأمر على طبيعة الشخص نفسه. كانت كل منهن تساعد الأخرى بشكل عام، دون الحاجة إلى تقديم مساعدات كبيرة بالضرورة. إذا كانت إحدى السيدات مثلًا على وشك الخضوع لعملية إجهاض، تجد أخرى تحاول تهدئتها، مثلما يحدث في أي عيادة عادية، وتخبرها بأن الأمر ليس بهذا السوء. كن طيبات تجاه بعضهن. ربما لأننا كنا ندير الأمور بهدوء وروية، وكنا نحاول طوال الوقت احترام الآخر. أظن أن هذه الطريقة في إبداء الاحترام والحفاظ على المساواة تساعد الناس على الاتحاد، وتقربهم إلى بعضهم البعض. وأعتقد أن أغلبهن شعرن بدعمٍ حقيقي، وبالدفء والقبول، أو أيًا كان ما تقدمه كل منا. أظن أن لكل واحدة منا أسلوب مختلف عن الأخرى. عن نفسي، حاولت أن أكون حاضرة قدر المستطاع، كانت تلك طريقتي. كنت أحاول أن أشعرهن بالراحة، لذا كنت حاضرة، أو هكذا أظن أنني فعلت، حاضرة بشكل قوي وهش في الوقت نفسه».

حاولت جاين توظيف المتطوعات وفقًا لمهاراتهن وقدراتهن. روث نفسها لم تشعر بأنها واثقة في نفسها بما يكفي لإجراء عملية الإجهاض بنفسها. 

«أعتقد أنني شعرت في بداية الأمر برغبة في الاطلاع على ما يحدث في العملية. ولأنني كانت لدي رغبة قوية في مساعدة الناس، كنت موجودة لتقديم الدعم، والربت على يد كل من تحتاج ذلك.

أردتُ تقديم بعض المساعدة، أو حتى محاولة إجراء عمليات الإجهاض بنفسي، لكنني واجهت صعوبة كبيرة في ذلك. كنت قادرة على إجراء الجزء الأول من العملية – وهو توسيع عنق الرحم، وإعطاء الحقنة – لكنني لم أستطع إجراء الإجهاض نفسه. بإمكاني فعل ذلك الآن، لكنني لم أقدر وقتها. صرت أثق في يديَّ لأنني أصبحت ماهرة في عمل الفخار. يشبه الأمر الفترة التي كنت أواجه أثناءها صعوبةً في تشكيل صينية الفطائر، لكنني لم أعد أواجه الصعوبة ذاتها الآن. 

كنت خائفة من أن أوذي إحداهن. لو لم أستطع رؤية ما تفعله يدي، كيف أعرف أن ما أفعله صحيح؟ ما دمت أرى أمامي ما تفعله يداي، لم يكن هناك أي مشكلة. لكن فور نفاذهما للداخل، وعجز عيني عن تتبع حركتهما، لم تكن لدي أي ثقة في أن ما أفعله صحيح».

قررت روث أن مهاراتها ستخدم المجموعة بشكل أفضل إذا أصبحت مسؤولة عن منصب «جاين الكبيرة»، وهو مصطلح كان يستخدم لوصف الشخص المسؤول عن توظيف الاستشاريات، ووضع جدول العمليات، وكان المصدر الرئيسي للمعلومات بالنسبة لعضوات المجموعة. وتشرح روث طبيعة عملها فتقول:

«أصبحت مسؤولة عن منصب جاين الكبيرة، وكان هذا المنصب هو المنصب الآخر الوحيد الذي يحمل هذا القدر من الأهمية والقوة. كنت محظوظة، أو بالأحرى كانت المجموعة محظوظة. كانت هناك عضوة أخرى مسؤولة عن جاين الكبيرة، ولم يكن أدائها جيدًا بما فيه الكفاية لهذا المنصب، لكنها كانت تجيد إجراء عمليات الإجهاض. لذا قررت أن أبدل مهامي معها. استطعت فعل هذا لأن منصبي في المجموعة سمح لي بذلك. ومع أن بقية العضوات كن غاضبات من قراري، لم تعبر إياهن عن غضبها تجاهي، لأنني كنت أتمتع بالنفوذ الكافي لتنفيذ ما أردته».

كان اتخاذ القرارات في جاين عملية صعبة. وكانت الأوضاع مثيرة للقلق بسبب طبيعة النشاط الذي تقدمه (الذي كان يعد نشاطًا مهددًا للحياة بشكل ما) وبسبب الأهمية الشديدة للحفاظ على السرية، واحتياج العضوات للتركيز على كسب المعرفة بصفة دائمة لأن هناك نساء كثيرات يائسات يعوّلن عليهن. كانت العضوات يملن إلى كتم خلافاتهن للحفاظ على وحدة المجموعة وتحقيق هدفها. خلق هذا بدوره مشاكل داخلية، لكن حين ألقي القبض على سبع عضوات لدى جاين، وأصبح كيان المجموعة مهددًا بحق، استمرت الباقيات في إجراء عمليات الإجهاض، حتى حين اشتدت الخلافات بشأن استراتيجية إدارة المجموعة.

تذكر روث إحدى تلك المصاعب: 

«أذكر أنه كانت هناك امرأة بعينها عنيفة بحق، وتتمتع بنفوذ قوي. لم تكن ضمن فريق الإدارة، ولا أذكر حتى ما تشاجرنا بشأنه، لكنه بالتأكيد كان أثناء فترة الاعتقالات. اختلفنا بشكل جذري حول ما كنا ننوي فعله، لكنني فزت. فزت لأنه بإمكاني أن أكون عنيفة بدوري حين أحتاج إلى أن أكون كذلك. لذا تغلبت عليها».

أدركت جاين لاحقًا أن حملة الاعتقالات لم تكن مخططًا لغلق الخدمة الاستشارية الخاصة بالإجهاض، لكنها كانت تصرفًا ناتجًا عن شرطي بعينه. لسخرية القدر، كانت بعض عميلات جاين ينتمين لعائلات بها أفراد يعملون بالشرطة. وكان أسلوب عمدة البلدة حينها، ريتشارد ديلي، هو تجاهل نشاطات جاين بصورة غير رسمية رغم اتباعه أساليب قمعية في أغلب الأحيان.

بعد فترة قصيرة من إصدار قرار رو ضد ويد بتقنين الإجهاض في يناير من عام ١٩٧٣، أُسقطت القضية المرفوعة ضد «إجهاض 7» في هدوء. بعض العضوات كن راغبات في الاستمرار في تقديم الخدمة، ظنًا منهن أن التقنين لم يتناول قضايا مثل التكلفة وجودة الرعاية. أخريات استسلمن أو خفن من أن المؤسسة الطبية قد تقاضيهن لأنهن كن يمارسن الطب دون رخصة، بعدما أصبح إجراء عمليات الإجهاض مربحًا قانونيًا.

لكن روث تمنت أن تصبح تجربة جاين وخبرتها الواسعة في إجراء عمليات الإجهاض نموذجًا.

«كنتُ ساذجة. ظننت أننا تعلمنا في الخدمة الاستشارية كيفية تقديم خدماتنا باحترام، وبشكل سهّل إجراء العملية على الجميع، خصوصًا النساء. ظننت أن أسلوبنا سيفيد عالم الطب، وأن الجميع سيبدأون في ممارسة الطب بشكل مختلف. لم يحدث أي من هذا بالطبع، حتى في العيادات المخصصة لعمليات الإجهاض». 

أغلقت جاين أبوابها في ربيع عام ١٩٧٣. نشأت الخدمة الاستشارية الخاصة بعمليات الإجهاض في أوقات مضطربة، ولم يمر أحد بجاين في مرحلة ما دون أن يتأثر بشدة تجربتها. 

«بالنسبة لمن أعرفهن، كانت تلك أكثر فترات حياتنا حدة، وحين توقفت، شعرنا بأننا فقدنا شيئًا ما. ولم ننجح لوقتٍ طويل في إيجاد شيء يمكننا استهلاك الطاقة ذاتها فيه. فما هي فرص أن تجد شيئًا تفعله، ليس على درجة عالية من التعقيد، ومفيد بحق؟ يمكن للمرء أن يكون مفيدًا بطرق مختلفة، لكن طريقتنا كانت مفيدة لأن بدوننا كانت النساء يواجهن مشاكل حقيقية. كانت الخدمة مخصصة لكل امرأة عاجزة عن توفير تكاليف الخدمات المعتادة لإجراء مثل هذه العمليات، أو الأماكن التي قد يتئذين إذا لجئن لأي منها. لذا ما فعلناه كان غاية في الأهمية. لا يمر بحياة الواحد إلا لمامًا، أو قد لا يمر بها على الإطلاق».

من السهل أن نقع في فخ التعامل مع تجربة جاين برومانسية زائدة. تحذر روث سيرجال من المغالاة في مدح التجربة، لأن ذلك يجعلها متجاوزة للتجارب العادية، في حين أنها ليست كذلك.

رأت عضوات جاين أن لديهن مهمة عليهن تأديتها، وقد كان. حين انتهت المهمة، مضت كل منهن في حياتها. 

ما تزال روث منخرطة حتى اليوم في العمل الاجتماعي، وأصبحت تمارس الفخار بحرفية شديدة. أصبحت يداها، التي طالما خافت من أنها لن تتحمل إجراء عمليات إجهاض فعلية، قادرة على تشكيل أجسام رائعة بالفخار. وهي الآن عضوة ناشطة في مشروع Herstory Website Project، وما تزال توافق بصبر على إجراء مقابلات تناقش فيها تجربتها في العمل لدى جاين، وتصف ما تشعر به حيال التجربة قائلة:

«لم يكن خطبًا كبيرًا. لم أشعر بأنني أفعل شيئًا بالغ الأهمية. لم أشعر بهذا على الإطلاق. كانت مجرد مهمة أخرى علي توليها. بعدما انتهت، شعرت بأهميتها. ومع أنها كانت تجربة صغيرة وليست مهمة إلى هذا الحد، فقد ساعدت عددًا كبيرًا من النساء، وكانت تقدم شيئًا مفيدًا بحق».

حارسات

Share Button