Category Archives: Uncategorized

قصائد غير معنونة 

 

قصائد غير معنونة PDF

كتابة : فاني/ نور بليكاز 

 ناشطة نسوية مستقلة من الجزائر، عمري ٣٠ سنة. انتقلت للعيش في بيروت منذ ست سنوات. بدأتُ كتابة الأشعار منذ سنتين على الأرجح. كانت مفاجأة بالنسبة لي على كل الأصعدة، من بينها اللغوية، إذ ما كنت أجيد اللغة العربية ولا أستعملها. ومن أكثر الأسباب التي دفعتني إلى الكتابة، تجاربي الشخصية وعلاقاتي الحميمية، إذ أستوحي منها، وبالتالي أكتب وأعبر عن مشاعر وأفكار تراودني بزمن معين. وأشعاري أكثرها عن العشق ووجع الحب.

(1)

نفس ضيق، صفحات بيضاء

نفس ضيق، قلم ناشف

نفس ضيق، غضب دافق

نفس ضيق، روح مرافقة،

ملزمة أن أكتب

عنكِ، لكِ

أسطرا عدة حبا، كرها

هوس، مرض

لست أعلم

فارتياعي أن ألقّب بالمجنونة

وذنبي أن أهتري من حب قد أفقدني المنطق.

(2)

إلى حدّ الجنون

سكون، سكوت

سكون، سكوت،

يلبسني ويغطي جسدي،

جسد لطالما عشق التجرد،

خواء مكث بي،

متسلط مغذمر.

يرجف كياني خوفا

كرها، نسيان

كرها، نسيان

بأحلامي تلاحقني

وبماضيي تعاقبني

فجلدت مخيلتي

مرارا تعسفا،

لأرتاح

من عذابي المدمّرِ.

روي الجذور 

Share Button

خواتمُ وأساور

خواتمُ وأساور PDF 

كتابة : هاشم 

هاشم شاعرٌ ومؤدّي كويري يعيش في بيروت، وينشط في دوائر التنظيم الكويري والنسوي في لبنان والمنطقة منذ عام 2009. يحمل هاشم شهادة البكالوريوس في علوم التواصل والإعلام، وشهادة الماجستير في دراسات الجندر والجنسانية من جامعة لندن. قدّم أعماله الشعرية في أماكن مختلفةٍ في لبنان، بلفاست، مكسيكو سيتي وكاتماندو. عام 2018، كتب وأدّى عرض “المسافة الأخيرة” برفقة الفنان والراقص ألكسندر بوليكيفتش، وهو عرضٌ يتناول مسائل التجسيد الكويري واللغة. حاليًا، يقدّم هاشم فقرة شِعرية أسبوعية بعنوان “بُيُوت” عبر أثير “راديو حمّام”. يصدر ديوانه الأول بعنوان “حقدٌ طبقي” في أيلول/ سبتمبر 2020.

المدونة: https://hashembeirut.wordpress.com

إنستغرام: @hashem.beirut 

 

لا تُصدّقي هذا العالم،

الحياةُ لا تحدثُ

في عقولٍ مرتّبة

وفي قلوبٍ مهذّبة.

عندما أخلعُ أمامكِ

خواتِمي،

أخلعُ معها

كل الكلماتِ المنمّقة

وكل الجُمَلِ المُنسّقة،

أعودُ

فمًا عربيًا

فمًا همجيًا

لا يعرفُ سكينًا ومِلعقة.

يدانِ حرّتان

يدانِ لا تكتبان

إلّا بمسمارٍ ومطرقة.

أعودُ

دربًا سرّيةً 

غابةً برّيةً

لا تُخفي عنكِ

زواياها المُظلِمة.

أعودُ

أفعًى عصيّةً

لا تعتذِر منكِ

عن لدغاتِها المُؤلِمة.

***

لا تُصدّقي هذا العالم،

لسنا نستحقّ

أيًا ممّا حدَث لنا،

بل نستحقّ الآنَ هنا

لحظةً عابِرة

لحظةً آسِرة،

فاخلعي أساوركِ أمامي،

وكوني لي 

حُرةً

ثائِرة.

 

روي الجذور 

Share Button

رفيقتي حبيبتي

 

رفيقتي حبيبتي PDF

كتابة : هاشم 

هاشم شاعرٌ ومؤدّي كويري يعيش في بيروت، وينشط في دوائر التنظيم الكويري والنسوي في لبنان والمنطقة منذ عام 2009. يحمل هاشم شهادة البكالوريوس في علوم التواصل والإعلام، وشهادة الماجستير في دراسات الجندر والجنسانية من جامعة لندن. قدّم أعماله الشعرية في أماكن مختلفةٍ في لبنان، بلفاست، مكسيكو سيتي وكاتماندو. عام 2018، كتب وأدّى عرض “المسافة الأخيرة” برفقة الفنان والراقص ألكسندر بوليكيفتش، وهو عرضٌ يتناول مسائل التجسيد الكويري واللغة. حاليًا، يقدّم هاشم فقرة شِعرية أسبوعية بعنوان “بُيُوت” عبر أثير “راديو حمّام”. يصدر ديوانه الأول بعنوان “حقدٌ طبقي” في أيلول/ سبتمبر 2020.

المدونة: https://hashembeirut.wordpress.com

إنستغرام: @hashem.beirut 

 

رفيقتي، حبيبتي

نمارِسُ الحُبَّ

ونمارِسُ الغضبْ،

ولسْتُ أعرفْ

أيهُما أجمَلْ؟

تَصرُخين فيَّ حبًّا

وتصرُخين فيهِم غضبًا،

ولسْتُ أعرفْ

في أيّ اللّحظتَينِ

تَبدين أجمَلْ؟

***

رفيقتي، حبيبتي

يومَ ضرَبونا بالهراواتْ

ورَشقونا بالعُبواتْ

وأسالُوا دمْعَنا،

لم يكُن معنا

سِوى قهْرنا

وفقرنا،

لكنّنا ضَحِكنا معًا

ولمْ تُفلِتي يَدي

في وجهِ الرصاصاتِ الفاسِدَة،

وكفاني أنْ أعرفَ يومَها

أننا واحِدَة.

***

رفيقتي، حبيبتي

تسْقط مصارِفُهم

تسْقط ضرائبُهم

تسْقط بنادقُهم

عندَ قدمَيكِ،

كما يسْقطُ القلْبُ

أمامَ غمّازتيكِ.

***

رَفيقتي، قصيدَتي،

أريدُ بلَدي حُرًا

أريدُ جسَدي حُرًا،

فأمْسِكي بإحساسي

أمْسِكي بأنفاسي،

ولنَصنعَ مَدينةً لَنا

تُشبهُ كل الفُصولْ،

تُشبهُ حُبًا

لا يَستأذِنُ قبل الحُصولْ.

***

رفيقتي، حبيبتي

يُريدُون أنْ يَجرَحونا 

أنْ يَذبحُونا،

فكوني دَمي

كوني لَحمي

كوني اسْمي،

ولنلتئِمْ معًا

جُرحًا طريًّا

جُرحًا قويًا،

لا يَفتحُ إلّا

للحُبْ.

***

رفيقتي، مَدينتي،

مَجنونةٌ، مَلعونةٌ

مَطحونةٌ بالقُمامة والعَفنْ،

مَعجونةٌ

بالصُراخِ وبالشجَنْ،

تُطبقُ على رَأسي

كالمِقصلة

كالمِقبرة،

ثم تَهُبّ

هَادِرةً

كالحَنجَرة،

سَاحِرةً

كالجَوهَرة.

***

حبيبتي، حبيبتي

الشذوذُ هُو

أنْ نقبلَ الوَاقعْ

أنْ نهجُرَ الشارِعْ

أنْ نُنكِرَ الحَقيقة،

أنْ أسمّيكِ – بعدَ كل ما صارَ –

صَديقة.

الشذوذُ هو

راياتُ شكرٍ لِمَن يَذبحُوننا،

آياتُ حُبٍ لِمَن يَسحقوننا.

الشذوذُ يا حبيبتي،

رائحةُ بحْرٍ

لمْ نعُدْ نَراه،

رائحةُ قصرٍ

يُكمّمُ الأفوَاه،

رائحةُ فَقرٍ

في مَوانئ الصّيادينْ

وبُيوتِ المُياوماتِ

وخيامِ اللاجئينْ،

رائحةُ مكرٍ

في أختامِ المَصارِف

في أنصَافِ المَواقِف،

رائحةُ قهرٍ

في عَينَي امرأةٍ

مَسْحوقةٍ، مَحْروقةٍ

قبلَ أنْ تقعَ الجَريمة،

رائحةُ عمْرٍ

يَتهدّمُ أمامنا

كبُيوتِ بَيروتَ القديمة.

***

رفيقتي، تَعويذَتي،

هلّا تشفينَ

شِعْري الذي يَهزمُني

وشعبي الذي يؤلمُني؟

هلّا تكونين لي

شمسًا، وهمسًا،

وكأسًا، ورقصًا،

يُطفئ كل القنابل؟

كوني لي فأسًا،

يَهدِمُ كل الهياكل.

كوني ذاكرَتي

كوني ساحرَتي،

أحرِقي كل السلاسِل.

كوني لي أرضًا،

أغْرسُ فيها نفسي

وأمطِرْ،

فتُنبتُ عِنبًا وتينًا ووَردًا.

كوني لي شارعًا

أهتفُ فيه

أثورُ فيه،

فأنتصِر

أو أنكسِر.

كوني لي لِسانًا

متمرّدًا، متشرّدًا،

يقولُ كلَّ شيءٍ

ولا يَعتذر.

كوني لي بيتًا وزيتًا

وخبزًا كفاف يَوْمي،

كوني لي دَمعة ماءٍ،

تُكافئ صَوْمي،

هلّا تكونين؟

أكونُ لكِ

كل ما تُريدين.

***

حبيبتي، حبيبتي،

لوْ كان هناك طَريقان إليكِ

لاخْترتُ الطريقَ الأطوَل،

أليسَ بالصبْرِ

تغدُو الأشياءُ أجمَل؟

***

رفيقتي، حبيبتي،

فلنقِفَ على حافة العالم،

ولنحتفلْ، نحتفلْ، نحتفلْ

بحُبٍ

سَيحدُثُ حتمًا،

بعالمٍ حلوٍ

سَيأتي يومًا.

حبيبتي، حبيبتي،

فلتقِفي على كتِفي،

ولتُطعِمي منْ سُكّر يَديكِ

كلَّ جياعِ العَالم.

 روي الجذور 

Share Button

أجدنا في الفواصل 

 

أجدنا في الفواصل   PDF 

كتابة : فرح العريضي

باحثة وكاتبة لبنانية وطالبة دكتوراه في الأدب المقارن من جامعة غولدسميثس في لندن. تتضمن اهتماماتها وكتاباتها الأكاديمية والإبداعية: المدينة، خاصة المدينة في زمن الحرب والصراعات الداخلية؛ المرأة والجسد الكويري في المدينة؛ العدالة الاجتماعية والمكاني؛ وتقنيات القوة وأدوات السيطرة الاجتماعية.

 

أختلي بنفسي – كما هي عادتي – بين أوراقي، في حانة صغيرة في أحد شوارع بيروت القديمة. أحاول أن أرسم بأحرف مزاجية أشكال الطاولات والكراسي وأحاديث الناس وأصوات الأطباق والفناجين وآثار الدخان المتصاعد من السجائر وغيوم القهوة. أردت اليوم مصادقة أفكاري، فلطالما واستني وحشتي وأوراقي أكثر من أي وجود بشري في حياتي. 

تجلسين على طاولة مجاورة. تكتبين، تتأمّلين الدخان المتصاعد من سيجارتك، وكأنّك تضحكين خلسة بتلذّذ عارم. يترنّح على أصابعك لون أحمر. يتمرّغ بتمرّس كلّما اقتربت يدكِ من شفتيكِ. أسترق نظرات عابرة. أتأمّل بدوري بلاغة شفتيكِ عندما تنطق بالأحمر. أسترسل في تأمّلاتي وبحواراتٍ أتخيّلها تدور بيننا، ملِكَتَها حمرة لا تنكفئ.  يجلس معي على الطاولة كتاب قديم لفوكو. ألتمّس اهتمامكِ عندما تبتسمين له بتواطؤ. لكن فوكو في تلك اللحظة يكسر اتفاقه السريّ معك عندما تعجزين عن إشعال سيجارتك ثانيةً. فتأتي حينها فرصتي. بشجاعة، لم أعترف قط أنّي أمتلكها، أعرض عليك ولّاعتي. تقتربين. تشكريني. تدنو يدك من ثغرك. يُلقى ضوء على تفاصيل وجهك. تنتبهين. تبتسمين بامتنان ولذة. لكنك لا تتحرّكين. أحاول ألا أبدو كطفلة صغيرة أمامكِ. أسيطر على دقّات قلبي ويأتي فوكو لنجدتنا نحن الاثنتين. تُبدين فضولاً باهتمامي بالفيلسوف الفرنسي. فتمرّ ثلاث ساعات برمشة عين. وتتخمّر أحاديثنا بقعر قنينة نبيذ تتبارى حمرتها وشفتيكِ. تشاركيني ما تكتبيه حالياً، فنغوص معاً في عالم متخيّل يبدو في حينه أكثر واقعيّة من العالم الذي انقطعنا عنه لساعات. فتمرّ ساعة أخرى. ثم ترحلين. “لنا لقاء قريب”، تقولين وتمضين. 

أراقب رحيلك ببطء. أشعل بدوري سيجارة، وأبدأ بالانتظار. 

تشبهكِ شوارع المدينة، فكلاكما تستحقان الانتظار – كلما مشيتُ خطوة، أو كتبتُ سطراً على أوراقٍ فقدت ترتيبها بعد لقائكِ. غدت كلماتي تنطلق بلا رقيب أو أديب. يمكنني القول إنني اليوم أكتب من دون حساب. 

لطالما اتّهمني أبي بأنني أعيش في الأدب ومن خلاله، وبأنني لا أنتمي إلى العالم الواقعيّ، بل أبيت بين سطوري وصوري وشخصياتي وقصصي. فتصبح تلك واقعي، وأنعتق من العالم الحقيقي الملموس، أكتب ما لا أستطيع أن أعيشه. أو على الأقل، هذا ما كنت أحسبه. كنت أتلقّى تعليقاته بلذّة وسخرية لا أُبديهما. فمنذ صغري أنتظر تعليقات أبي التشخيصية. فقد كان يعتبر شعري بعيداً كل البعد عن الشعر، ونصوصي حائرةً، تتعدّى على حدود النثر وأشكاله. فأبي يحترم قواعد وقوالب وقوافي الأدب بصرامةِ مؤمنٍ، في حين أكفر أنا بها كلما أُتيحت لي الفرصة. لطالما استهواني تكسير الهياكل والأشكال التي تأسر المضمون الأدبي للنص النثري أو الشعري، وتعيق حركته وانبعاث صوره بسلاسة. اليوم أتأكّد كم كان أبي على خطأ. اليوم أكتشف بفعل لقائنا وغيابك وانتظاري أنني أستطيع أن أعيش حياتي كما أعيشها في الكتب والروايات، كما أحسّها بالشعر ومن خلاله، أو حتى كما أكتبها. اليوم أكتشف أني حرّة كلما أكتب، وأنني لا أستعيض عن الحياة عبر تحويلها إلى نصّ أدبي. بل العكس تماماً. فعندما تنطلق كلماتي كل صباح على صفحة بيضاء جديدة، أولد من جديد. أرتّب أفكارا عشوائية، ثم أبعثر غيرها بانتظام، وألملم ما خلّفته أحلام وكوابيس الليل الفائت. فاكتشف أنني أقترب أكثر من ذاتي، كلما أزيد سطراً أو بيتاً في دفتري الأسود الصغير.  

 اليوم أكتشف كم تشبهين مدينتي وقصائدي، كما يحلو لي أن أراكُنّ: ثائرات، حرّات، جميلات. فأنتظركِ.

أرتاحُ في الغياب. أستفيض في الانتظار وأستعيض عنكِ بالكتابة من خلالكِ، وأحياناً قليلة جداً باسمكِ، وأحياناً أقلّ بعد، عنكِ. أنتظرُ وأبحثُ عن البدايات لأعود إليكِ، لأجد طريقي إليكِ ثانية. لكني، ومن خلال التقرّب منكِ عبر فعل الكتابة هذا، أقترب من الراوية والكاتبة معاً. فتتداخل الأنا الأدبية بالعملية الإبداعية، وتصبح الاحتمالات المتخيلة حقيقة في الإفصاح والتجلّي. تتآمر بلاغتي عليّ. فأحوّل سكوني وصمتي – في الانتظار – إلى فواصل كلام، سرعان ما يُسرع قلمي إلى اختراقها وتمزيقها وتشريحها. فأجدنا في التفاصيل. رحلتي وترحالي لا عذاب فيهما، بل لذة البحث بين السطور والقوافي، والتغنّي بجماليات اللغة، وبلاغة الكلام والمعاني في عوالم افتراضية. أكتب لأشطب كل سطر وأبدأ من جديد. كل بداية اكتشاف لزاوية وصورة وانعكاس. كل جديد انقشاع لخبايا معانٍ وتفاصيل تكوين هويتي. فيأتي ترحالي رحلة التعرّف على ذاتي وكسر حواجز الصمت والسرية التي طالما خطّت أفكاري وقيّدتها تحت أسماء مستعارة وضمائر مستترة ولغة أجنبية، لن يفقهها من يجد دفاتري ومسودّاتي المخبّئة تحت سريري. 

قُلتِ لي مرة كيف بدأتِ بالكتابة بعد الاستماع إليّ في أمسية شعرية. فتحمّست للكتابة بدورك. لكنك لم تكتبي لي يوماً. لم يُحزنني ذلك. بل العكس تماماً. فأنا لا أريد تحمّل عبء من تكتبين عنها أو إليها. لا أريد أن أتحوّل الى شخصية أدبية تسيطرين عليها كلما سيطرت هي بدورها على أفكارك ومشاعرك. أكتفي بكوني حافزاً وإلهاماً لشغف البدء بقصيدة جديدة، أو قصّة ما. فلا أطمح أن أكون بطلة رواية واحدة، أو ضحيّتها. لا أستطيع قبول كوني احتمالاً وليس أكثر، يتبدّد بضربة قلم، أو لطخة حبر. أرفض الكتابة عنك للأسباب عينها. ستكونين بذلك مجمعاً لشغفي في الكتابة وعشقي لبداية عوالم لا تشبه بعضها بشيء سوى بأنني أنا من ابتدعتها. فأتنقّل بينها كما يطيب لي. أغرق بالبدايات وأُعيد تأليفها وترتيب أحداثها، وتاريخها وتواريخها، كما تبدّلين أحمر شفاهك كل يوم أمام مرآتك. فأبدأ من جديد، كل صباح، وأدور حول نقطة البداية الأولى التي تشبهك بتجدّدها. وتشبه بذلك علاقتي بكِ. فتكونين كل مرة أراكِ فيها كلحظة التكوين الأولى: ثائرة، عابرة، عنيفة، لطيفة، حاضرة، غائبة، أبديّة التجدّد، لا تعيدين نفسك مرة. لحظة أنتظرها كما انتظرتك؛ كل صباح جديد. فكرة انطلقت من أول لقاء وتفرّعت احتمالاتها. هي أحمر الشفاه ولَيْلَى النبيذ ومٍسودات الشعر. 

روي الجذور 

Share Button

طرفي بُرهانٌ للمحبة

طرفي بُرهانٌ للمحبة  PDF 

كتبت: سماح جعفر

مترجمة وباحثة فنية بمركز الصورة المعاصرة. نُشرت أعمالها بالعديد من الإصدارات الورقية والإلكترونية، كما في كتب مستقلة. من ترجماتها: كتاب “موسيقى التمرد” لهشام عايدي، رواية “الناقوس الزجاجي” لسيلفيا بلاث، كتاب “عن الحشيش” لفالتر بنيامين، ورواية “عيونهم كانت تراقب الرب” لزورا نيل هرستون. كما تترجم سماح بانتظام وتنشر ترجماتها لقصائد أو رسائل أو أعمال بالانجليزية على مدونتها “الحركات”.

 

“إنني أعلن الفرد العظيم، المتدفق كما الطبيعة، العفيف، 

الحنون، العطوف، المسلح بشكل كامل. 

إنني أعلن عن الحياة التي يجب أن تكون زاخرة، عنيفة، روحية، وجريئة، 

وأعلن عن الشيخوخة التي يجب أن تُقابل بخفة وبفرح ترجمتها”. والت ويتمان

لم أتردد قط في الموافقة عندما طلبت مني صديقتي أن أكتب في هذا العدد من الإصدارة… عندما سألتني بمحبة إذا وددت الكتابة عن ترجمتي للرسائل في مدونتي [الحركات] 1، تلك الرسائل الحبيبة بمباشرتها وتخفيها وقربها وبعدها، الرسائل التي قضيت وقتًا طويلًا أقرأ عنها، أقرأها، أتسلح لترجمتها، وأحاول سبرها لمرة… كل مرة. لكنني تساءلت عما سأكتب، عما لو أن ما سيُكتب منصف لهذه الرسائل! منصف لشعوري نحوها حتى! منصف لعميق المحبة التي تغمرها! أي لوعة وأي جحيم يعترينا حين نجد أنفسنا محاصرين برغبتنا في إنصاف محبتنا لأمر ما! فكرت أيضًا أن الكتابة عما نحب تسمح للعالم بمشاركتنا تلك المحبة. أعرف أن ترجمة تلك الرسائل ونشرها من البداية هي دعوة للعالم لمشاركتنا المحبة، لكن أن نكتب عن محبتنا في أصلها خطوة أبعد في الكشف والائتلاف. 

لقد عرفت في جزء من تلك الرسائل أخواتي في البراعة، اللاتي تقاسمن معي المزالق المرئية والمحتجبة لسلطة المجتمعات الأبوية المستعرة، وتقاسمن أيضًا تلك الحيوات المبتسرة التي يقدمها لنا العالم في طبق من العجرفة التي تشكك في ذكائنا، فقط لأننا ولدنا وبين ساقينا اسم الوردة (لأننا نهذب كل شيء فينا ليلاءم الخيالات الورعة لمتعاطين أفلام البورنو الشرفاء). 

كتب 2هنري ميللر في رسالته 3لأناييس نن: “أقول إنه حلمٌ وحشي – لكنه حلم أود أن أدركه. الحياة والأدب متحدان، أحب هذا الدينامو، أنتِ بروحك الحربائية تهبينني ألف محبة، وتبقينني راسيًا دائمًا بغض النظر عن العاصفة، والمنزل هو أينما كنا معًا. في الصباح، نستمر من حيث توقفنا. قيامة بعد قيامة. تستمرين في تأكيد نفسك، وتحصلين على الحياة المتنوعة الغنية التي تريدينها. وكلما أكدت نفسك أكثر أردتني أكثر، احتجتِ إليَّ أكثر. صوتك يصبح أغلظ وأعمق، عيناك أكثر سوادًا، دمك أكثر سُمكًا، وجسدك أكثر امتلاءً. خنوع حسي وضرورة طاغية. أكثر قسوة الآن من قبل – قسوة واعية ومتعمدة. الفرحة النهمة للخبرة، أعتقد أن الفن هو ذاك الحلم الوحشي، لذلك كل ما ينتج عنه يصيب روحي بتلك الوحشية البذلة، يضعني في مواجهة مع مخاوفي ومخاوف الآخرين، لكنه بذات الوقت يحررني من تلك المخاوف ويجبر عقلي على التفكير. أرى في كل شكل من أشكاله حياتنا بهيئتها المجردة، حياة المحب والمحبوب، التقاء النقيض والمتشابه، المقبول والمرفوض، السائد وما تمت تنحيته. 

يجعلني الأمر أفكر في رحلتي كلها. البداية. بدأ الأمر بالموسيقى التي أحبها والداي، برؤيتي للفنان البهيج، الجوهر الفرد خضر بشير 4 وهو يقول في لقاء متلفز يعود إلى السبعينات: “أنا لما تعجبني نفسي بمثل بلبل .. وماله؟! مش منظر وجيه؟” أحسست حينها أن الفن يشبه ذلك الشعور، الإعجاب بالنفس، إطلاق العنان للمخيلة، ربما قالت إيميلي ديكنسون 5 لنفسها (سأكون بلبلًا، وستُعجبني هيئتي وسأهِبك المنظر الوجيه، الكتابة المتفردة، الانعتاق التام، وخلال كل هذا ستخشَى وتزدري هويتي وستُجرد شعوري من مسبباته لتمنحه لقارئ تظنه جديرًا بأن تمحو لأجله حياتي كما عرفتها، وستقوم بكل هذا بعد قبري!) 

لقد عرفت منذ وقت طويل أن عين الفن هي التي سأرى بها العالم، ولو تحقق ذلك بلوحة تبصق في وجهنا العذاب الحلو لحاييم سوتين 6، أو بكتاب مؤرق يلفظني في المتاهة الأبدية لغلوريا آنزالدوا 7، بقصة خالية من الدافع المنافق العنيف للصَوابية السياسية، بفيلم يحمل الموت كرسالة ترحيب ووداع وألفة كما في حرب الجزائر 8، 9أو بطقس الليلة وعيشة قنديشة 10 ولالة ميرا 11 وسيدي موسى روح البحر الذي ألهم البلوز والجاز لعالم معدّ بحرفة تخلو من محبة الرفاق… محبة الرفاق الأبدية، لكنه لن يخلو أبدًا من والت ويتمان12

أحببت كل الفنون، بأشكالها ومُروضيها، لكن من بينها جميعًا اخترت الترجمة لتكون مهنتي. ترجمت كل ما أحببت، من الشعر إلى الرواية إلى الهيب هوب إلى القصائد إلى الملاكمة إلى الكتب الفلسفية والأكاديمية إلى التصوف إلى الفوتوغرافيا والسينماتوغرافيا، وصولًا إلى الرسائل العظيمة المتبادلة بين الأحبة. جاء اهتمامي بتلك الرسائل البديعة على مستويات مختلفة. تستهويني الرسائل وأحسبها أكثر شكلٍ حميم للكتابة، بين ثناياها نجد المعادل الأكثر نقاءً للشعور الإنساني، كما هو الحال في رسالة الروائي الأمريكي رايموند تشاندلر 13 ردًا على رسالة تعزية وصلته بعد وفاة زوجته، “رسالتك فريدة من نوعها لأنها تتحدث عن الجمال الذين فقدناه بدلًا من تعزيتي بحياة عقيمة لا زالت مستمرة. لقد كانت كل ما قلته عنها وأكثر. كانت دقات قلبي لمدة ثلاثين عامًا. كانت الموسيقى التي تسمع بخفة على حافة الصوت”. أو في رسالة باتي سميث 14 لحبيبها الراحل روبرت مابلثورب 15 التي قالت فيها، “خلال تلك الظهيرة، عندما نمت على كتفي، شَرَدَتُ قليلًا. لكن قبل أن أفعل، خطر لي وأنا أنظر إلى أشياءك وأعمالك، وتمر سنوات من فنك في ذهني، أنه من بين جميع أعمالك الفنية، تظلين أنتِ الأجمل. تظلين أنتِ الأجمل بينها جميعًا”. استطعتُ أن أرى في الرسالتين المشاعر الإنسانية حين لا نضطر لدفعها دفعًا لتصل حيث نريدها؛ فقد أحدهم حبيبه وعبر عن ذلك بأقصى بساطة وبؤس وتقدير ممكن، لا شيء أكثر! لم أحتج منهم لشيء أكثر. 

أحب الرسائل الكويرية التي تبادلها الفنانات/نون عبر العصور، ودائمًا ما شعرت بوجوب ترجمتي لها. ربما لأنني أدركت أن العالم لم يكن منصفًا قط لمشاعر لم يفهمها وهوية لم يستطع دحضها أو قتلها. لكنه كثيرًا ما استطاع تهميشها وازدرائها، لأن العالم لم يكن رحيمًا بأي منهن قط، لم يفهمهم قط. وربما أيضًا لأنني أنتمي لفئات مهمشة، وأحسب – ولو لم يكن ذلك دقيقًا بشكل تام – أنني أفهم الصراع – أفهمه لأنني امرأة سوداء من العالم الثالث كثيرًا ما تعرضت للتهميش والازدراء بأشكال مختلفة. 

في مقتطف من رسالتها لحبيبتها سوزي 16 كتبت إيميلي ديكنسون: “أحتاجكِ أكثر وأكثر، في حين يتَعاظَمُ العالم الضخم أكثر، ويصبح الأحباء أقل وأقل. في كل يوم تكونين بعيدة أفتقد قلبي الأكبر، وتهيمُ روحي لتُنادي سوزي. الأصدقاء عزيزون جدًا على أن يفصلوا، آه وكم هم قليلون، وعما قريبٍ سيذهبون ولن نجدهم حتى لو بحثنا، لا تدعينا ننسى هذه الأشياء، لأن تذكرها الآن سيوفر علينا الكثير من الألم عندما يفوت الأوان على حبها! سامحيني يا حبيبتي سوزي على كل كلمة أقولها، لأن قلبي مليءٌ بكِ، لا شيء سواكِ في أفكاري، لكن حين أسعى لأن أقول لكِ شيئًا ليس للعالم، فإن الكلمات تخذلُني”. في هذه الرسالة، أنصفت إيميلي الكتابة، وأنصفت المحبة، وأنصفت مشاعرنا باختلافها، اختلافنا بمُثابرته، ومثابرتِنا بصدقها، أنصفت نسويتنا بتلك السطور. أدرك أننا خارج تلك السطور نعاني بشكل يومي وعلى عدة مستويات، لكنني علمت نفسي – ضمن حيل كثيرة للنجاة – أن أنغلِق داخل شعوري بشيء ما في برهته، وألا أسلم ذاتي لشيء سواه حتى يرغمني الواقع على العكس. يمكن أن أقول الشيء ذاته عن رسالة فيوليت ترفيوسس 17 لفيتا ساكفيل-ويست 18 ، “كوني شريرة، كوني شجاعة، كوني سكرانة، كوني متهورة، كوني ماجنة، كوني استبدادية، كوني فوضوية، كوني متعصبة دينيًا، كوني سوفرجت، كوني أي شيء تريدينه. لكن، ولو كان ذلك حتى بدافع الشفقة، كوني ما تريدين بأقصى عزمك. عيشي… عيشي بشكل كامل، عيشي بحماس، عيشي على نحو كارثي إذا لزم الأمر. عيشي سلسلة من التجارب الإنسانية. ابنِ، دمري، ابنِ من جديد! عيشي، دعينا نعيش، أنت وأنا. دعينا نعيش كما لم يعش شيء من قبل، لنستكشف ونفحص، دعينا نخطو دون خوف حيث المكان الذي حتى البواسل يتعثرون فيه ويتقهقروُن!”. أليست المحبة في أقصاها لا معيارية؟ أليست محمسة؟ ألا تدفعنا دفعًا لتحدي الحياة كما نعرفها، العالم كما يريدنا؟ ألا تعرّفنا على أجسادنا وانخراطها في تكوين شعورنا نحو كل شيء أكثر؟ ألا تُشبع ذلك الجوع في أرواحنا؟ مع كل رسالة أقرأها يُفتَح داخلي باب جديد في المحبة ورغبة أكبر لفهم تأثير ذلك على كل شذرة من جسدي. مع كل رسالة أقرأها أنزع عني مُساءلة أخلاقية، قالبًا اجتماعيًا، تسلسلًا هرميًا، تعريفًا مشوهًا حولي وحول الآخرين، مع كل رسالة أتعافى. 

تحميني الترجمة من المصاعب التي تسببها الكتابة، من الشعور بهول اللحظة، من المخاوف التي تعتريني حين أفكر فيها حتى. وجدت في الكتابات التي أقرأها سلواي. لكل شعور تملكني كانت هناك قصيدة، رسالة، قصة قصيرة، رواية أو أغنية تصف ذاك الشعور. وقد كانت ترجمتي لتلك الأعمال هي طريقتي للتعبير عن امتناني بجزل المحبة. لكن رغم كل هذا، وفي كثير من الأوقات، نحتاج أن نشرع في الكتابة بطريقة أو بأخرى. علينا أن نكتب، وأن نقرأ، وأن نشارك سريرتنا، لعل الكتابة هي ما نحتاجُه لفهم ما يحدث بأرواحنا. كانت قراءة ما كُتِب هي وسيلتي لمعرفة ما يحدث داخلي. كانت ترجمة ما قرأت هي وسيلتي لتذكر ما توجب علي تذكره؛ أنه رغم ما واجهنا كنساء، ورغم الأسفار التي وضعها العالم على أكتافنا، ورغم تهميشه لهوياتنا ومشاعرنا واختلافنا، ورغم كل الرفض الذي تلقيناه وسنتلقاهُ خلال حياتنا، لا زال بمقدرونا أن نكتب ونقرأ ونعبر ونرفض ونقبل ونفهم، ونخطو فوق الجراح بقلوب مدماة ومحاربة. 

 روي الجذور 

Share Button

بيننا… ضدنا تأويل تأمّلي في (إحدى وعشرين قصيدة حب) لأدريان ريتش

 

بيننا… ضدنا  PDF 

كتابة: مي عبد الحفيظ 

ترجمة: سماح جعفر

مي عبد الحفيظ نسوية أفريقية، شغوفة بالطعام الحار والقطط، وتكره كتابة السير الذاتية. 

 

لم يتخيَّلنا أحد. أردنا أن نحيا كالأشجار،

جمّيز مضطرم عبر الهواء الكبريتي،

مُعَرّق بالنُدوب، لم يزل يزهر بوفرة،

بشَغف حيوانِي متجذر في المدينة.

 كل قصة حب كويرية منكوبة فطريًا؛ هذا ما تعلمناه. كل حياة كويرية منكوبة، مقدر لها أن تبقى في الظلال حيث لا شيء ينمو، لتختفي في النهاية دون ترك أي أثر من تاريخنا، قريباتنا الكويريات، شيخاتنا، وقصص عن حيوات عيشت بتعقيدات متعددة.

ومثل أدريان وشريكتها، كانت نهاية الآن والهنا تلاحقنا بينما نسير في شوارع القاهرة القاتمة ليلًا. جسدان صغيران غِرّان يُناوران القمامة، المَحذُور والرصيف المتباين في مدينة نكرهها ونحبها. حبيبتان غرّتان تحجبان أُنوثتهما بـ “هوديز” كبير الحجم. حوت حقيبتي كتاب أدريان ريتش، “حلم لغة مشتركة”. لقد تعرفت على أدريان عبر مقالاتها ككاتبة نسوية كويرية، الأمر الذي قادني إلى شعرها. كنت مَأخُوذة، والتقمتُ كل كلمة كما لو أنها لفظت لأجلي ومني عبر الزمان والمكان. أحد الأعمال بين صفحات الكتاب هي “إحدى وعشرون قصيدة حب” – مجموعة من السوناتات تلت علاقة كتلك التي وجدت نفسي فيها. خَببنا شوارع القاهرة ليلًا، بينما نتحدث عن حب مشترك للأدب، ونتجرأ لأول مرة في حياتنا الغرّة على الحلم بمستقبل أفضل هنا، وليس في مكان آخر.

العالم يتغير، يتحول، وربما – ربما – يمكننا آنَئِذٍ تخيل حب كحبنا يتحرك في الشمس. 

أستيقظ في سريرك. وأعلم أنني كنت أحلم.

في وقت سابق، فصلتنا آلة التنبيه عن بعضنا،

كنتِ في مكتبك لساعات. أعرف ما حلمت به:

أتت صديقتنا الشاعرة إلى غرفتي

حيث كنت أكتب لعدة أيام،

مسودات، ورق كربون، قصائد تتناثر في كل مكان،

أردت أن أريها قصيدة

قصيدة حياتي. لكني ترددت،

استيقظت. كنتِ تقبلين شعري

لتُيقظينني. حلمت أنكِ كنت قصيدة،

أقول، قصيدة أردت أن أريها لشخص ما …

 اللاكويريون يحبون أن يسألوا، “متى عرفتي؟” كما لو أن “المعرفة” تعني أن نسمح لأنفسنا بتخيل حياة ومستقبل ومحبة وتقبل. أن نعرف يستدعي أن نتمكن من تخيل تلك الجنسانية، ذاك الشعور، وهذه الرغبة في مدينة لا تسمح بذلك، ولو بالكلمات حتى.

لم أجرؤ على الحلم بشعر يتحدث عنا حتى – ليس كفنتازية، ليس كنص فرعي؛ شعر دُمج في حياتنا اليومية العادية. غرف فوضوية ومنبهات تذكرنا بلَمْلَمة أنفسنا داخل الخزانة مرة أخرى.

مسلحة بكلمات جديدة، تغير هدفي من مجرد الوجود أو يا دُوب النجاة، إلى مُلاحقة درب التاريخ للبحث عن جِذرنا. بحثت بين سطور الكتب المكتوبة بلغتي عن تجارب مماثلة، محجمة عن افتراض أنهن لم تكن موجودات قبلنا، وأنهن لم تتركن تاريخًا. نحتاج إلى دليل على مقاومة سابقة لتخيل مستقبل لأِجلنا نحن الكويريات الوَحدانِيّات هناك.

لم يكن الشعر جزءًا أساسيًا من مكتبتي أبدًا. كانت مكتبتي في الغالب تخييلًا، حيث أكون الحيوات العدة وبطلات عقل الكاتب، واللا تخيل، حيث ستكون حيواتنا نظريات صِرفة. لَمّا قرأت أدريان، أدركت أنني أحب الشعر حقًا، لكنني شعرت بأنه اِخْتَانني. حتى عندما أصادف قصيدة تصور فيها رغبات ومحبة النساء الكويريات، يتم إخفاءهن بصورة مجازية أو نص فرعي غامض، أو يُنظر إليهن عبر عيون الرجال الذين يتجسسون على حيواتنا من خلال ثقوب المفاتيح المتلصصة. 

افعلي كل ما تستطيعين للنجاة.

أتعرفين، أظن أن الرجال يحبون الحروب …

غضبي المُستَعصِي، وجروحي التي لا تندمل

تنفتح أكثر بالدموع، أبكي عاجزة،

وما زالوا يسيطرون على العالم، وأنتِ لست بين ذراعي. 

رُويدًا، صارت تمشيتنا اليومية الليلية أقصر. كانت أقدامنا مرهقة بالفعل، احتجاجًا على مجهود المسيرات النهارية الطويلة التي يقودها أملنا الجماعي، غضبنا، حسرتنا. تُرك كتاب القصائد على السرير الذي تقاسمناه. لم يكن بإمكاني المجازفة بفقدانه خلال الوقفات الطويلة إلى جانب النساء والرجال المتطوعين للالتقاء والتصدي للاعتداءات الجنسية الجماعية – ردًا على الصدمة الأولية لاكتشاف أن النساء يتعرضن للاغتصاب والاعتداء في مكان يطالب بالحرية.

تعرضت النساء ضِمْن الحشود للغدر بسبب أنوثتهن المزعومة على أيدي الغوغاء، وفرض الواقع الذي أُبْعِد ذات مرة على أمل بسيط بأن المساواة تنطبق بطريقة ما على أنوثتنا، التي تدعو لأن تشملنا الحرية والأمن. زارتني أدريان مِرارًا أثناء صد تلك الهجمات الوحشية، ذكرتني بجمال المحبة حتى النداء التالي للمساعدة، بينما أتجاهل أصابع الدُخَلاء التي تتسلل إلى أكثر الأماكن حميمية لتمحو لمسة الوَجْد المحبة من الليلة السابقة.

غطيت جسد الفتاة التي تصرخ. لا أذكر شيئًا سوى صراخها والاختناق. حاولت تغطيتها دون أن ألمسها. لو أنها عرفت من أكون حقًا، لو رأت في تلك الأيدي التي طوقتها عديد النساء الأخريات اللائي طوقنني، فهل ستبتعد بنفور واِرتياع؟ هل تبرئني أنوثتنا المشتركة في عينيها؟ تركت هذه الأسئلة دون إجابة.

تمنيت أن تكون أدريان معي حتى أتمكن من سؤالها، “كيف تمكنت من النجاة طوال تلك السنوات دون أن تُستهلك بالمرارة؟” لكنها تركتنا في عام 2012. تمنيت لو أنيّ في مكان آخر، في سريرنا، أقرأ، أهرب من هذا الواقع. أردت بيتي. 

قرون من الكتب غير المكتوبة تتكوم خلف هذه الرفوف.

ولا يزال يتعين علينا التحديق في غياب

رجال لا يريدون، نساء لا يستطعن

التحدث لحياتنا – تلك الحفرة غير المنقّبة التي

تسمى الحضارة، فعل الترجمة هذا، نصف العالم هذا.

كانت المكتبة بيتي منذ أن كنت في التاسعة من عمري، أقرأ كلمات أوليفر تويست وهو يطلب المزيد من الحساء. لقد تعلمت أن أطلب أكثر من الكلمات وأقل من الحياة.

كانت الكلمات درعي ضد الراشدين الذين حاولوا قولبتي داخل صندوق ما يجب أن تكون عليه “الفتاة الجيدة”. الفتاة الجيدة لا تقرأ كثيرًا، ربما تقرأ ما يكفي لتلقي تعليم يمكّنها من امتهان وظيفة، لكن بالتأكيد ليس لحد يقودها للتشكيك في العالم الذي تعيش فيه. أو كما اعتادت والدتي أن تقول “الانغماس في الكلمات والأدب سيدمركِ!”

لا تملك النساء الكويريات رفاهية الجهل؛ لا يمكننا المخاطرة براحة تجاهل تعقيدات تصادم الجنس مع الرغبة. يحب البعض منا التظاهر بأننا سنكون بأمان لو لم ننظر بازدراء إلى الخطر الذي يحدق بنا، وينتظر ابتلاعنا مرة أخرى نحو النسيان. تترجم كلمات مثل “القمع” إلى سحب اليد بسرعة قبل لمس يد أخرى في العلن. خِلال ذلك، يتم اختيار خطاب التحرير بأكمله في صورة احتفال سنوي، وتصبح أقواس قزح رمزًا سلعيًا فقد معناه، تلوح به الشركات في شوارع نيويورك ويُقاضى بسببه في شوارع القاهرة. إنه يحوي كل لون يعكس الأجساد البيضاء، تاركًا الأسود والبني – المَنبُوذ والمهمل – ليشاهد الموكب يمر عبره ويدوس بأقدامه الراقصة على أجسادهم المظلومة، المعذبة والمقتولة. 

يداك الصغيرتان، تماثلان بدقة خاصتي

الإبهام فقط أكبر وأطول – في هذه الأيدي

يمكنني أن ائتمَن العالم، أو في عدة أيدي مثلها. 

كيف يمكنك أن تحبي جسدًا مشابهًا جدًا للجسد الذي تعلمتِ أن تكرهيه، تعلمتِ أن تشعري بالخجل منه منذ الولادة؟

في بعض الأحيان، تبدو المحبة والثقة كمشاعر غريبة بالنسبة لي، لغة تعلمتها عبر تكرار أغاني الحب منذ كنت طفلة تلاعب بشغف انعكاسها في المرآة، نفس المرآة التي تعلمت فيها تجنب نظرة عيني نحوي.

قرأت أدريان بينما أفكر في الأيدي التي أثق بها. تتبادر إلى الذهن عدة أشياء، مثل يد الأب وهي تلكم وجه الأم، ويد الأم الأقل قوة والأقل غضبًا وهي ترد الضربة في الهواء. ليست الأيدي سوى تهديد، تذكير حقيقي بالعنف الذي يحب العالم تسميته “المحبة”. أفحص يدي… مزيج من يديّ أمي وأبي. لا عجب أنني تعلمت لكم الجدران في وقت مبكر من حياتي.

الحب الكويري صراع يومي، ليس لأجل قبول المحبة فقط، لكن أيضًا للثقة في أن الأكف المفتوحة نحونا قادمة للملاطفة وليس للصفع، وأن هذه الأيدي ذاتها لن تمزقنا بَطْنًا لظهْر. أنا لا أثق في الأيدي خوفًا من أن يقدم أبي أو أبوها من خلالنا بإطلاق العنان لنفس الغضب مرارًا. لا شك أن التشابهات والتوازيات جذابة من الناحية الجمالية، لكن كيف يمكنني التوقف عن إسقاط وتغذية نفس العار؟ 

حين أكون بعيدة عنكِ أحاول خلقك بالكلمات،

هل أستخدمك ببساطة كنهر أو حرب؟

وكيف استخدمت الأنهار، كيف استخدمت الحروب

لأتجنب الكتابة عن الأسوأ بين الجميع

ليس جرائم الآخرين، ليس موتنا حتى،

لكن الفشل في اِبتغاء حريتنا بشغف كافٍ. 

الشيء الوحيد الذي كنت أثق به دائمًا هو الكلمات – الرقص على بياض الصفحات التي كانت فارغة ذات مرة. يعني الوقوع في الحب التَوق العميق للكتابة عن الحبيبة. استخدمت الكلمات مثلما استخدمت الأجساد، حتى أتقنت فن الاختباء على مرأى من الجميع، ليس بين السطور، لكن بين الكلمات.

حالما حلمت بكلمات مُتَّضحة ونافِذة كتلك التي اعتدت أن أصادفها، اعتقدت ذاتي الأصغر سنًا أن دفتر يوميات بقفل على شكل قلب كافٍ لإخفائها. انتهى الأمر بقصة مضحكة عن والدتي تقرأ كلماتي وعباراتي باِستِهزاء استوقفني فجأة، بينما كنت عائدة إلى حيث احتفظت بيومياتي الحبيبة، لأكتشف أن الأقفال نفسها تخون الأسرار… بالمقدار المناسب من القوة.

لم أستطع التوقف عن الكتابة، تعلمت فقط أن أخفي الأشياء بطريقة أفضل – حتى قابلت امرأة طلبت مني كتابتنا. بدا وكأنني أحبك، فقد أمضيت ليالٍ عدة إلى جوار جسدك النائم، هزته ليستيقظ وتتمكني من قراءتي، كنت أدرس ملامحك بعناية أثناء القراءة، متوقعة أن يخونك وجهك ويظهر إحباطًا، أن تملأ ضحكة أمي الغرفة، “أنتِ فاكرة نفسك مين؟ نجيب محفوظ؟” حفظت العديد من المسودات، لكنني لا زلت لا أثق في الأقفال أو كلمات المرور… فقط فن الاختباء في كلماتي. 

لكني أريد المتابعة من هنا معك

مقاومة إغراء امتهان الألم. 

حين أقرأ المزيد من القصص التي تشبه قصتنا، فإنها بحاجة ماسة إلى التحقق من صحتها. لكن كلما قرأت أكثر، كلما شعرت أنه لا يوجد أمل. أصبحت قصص أجساد الكويريين مرادفة للصدمة، ولا يسعني إلا أن أتساءل عما إذا كان بإمكاننا تخيل أي شيء يتجاوز تلك الصدمة، الرفض والخوف. أنحن مشغولون جدًا بمحاربة الواقع حتى يتاح لنا تخيل المستقبل؟!

ما هو الكويري دون الصدمة؟ صدمتنا هي جواز سفرنا، كما صاغتها ياسمين نير ببلاغة، والقبول المدفوع بالشفقة ليس مساواة. إن رؤيتنا فقط في ضوء صدمتنا لا يسمح لنا بأن نكون أشخاصًا بهم عيوب. إنها خزانة داخل خزانة وأنا أخشى أنه لكي يتم قبولنا كنساء كويريات، فإننا نظهر جروحنا دون إظهار حقيقتنا أبدًا.

تتبعني الرغبة في القبول في كل مرة أحاول فيها الكتابة. أنا خائفة حقًا من الكتابة. من الأسهل أن أغضب من أولئك الرجال والنساء الذين لا يمتلكون الشجاعة الكافية للكتابة عن أنفسهم بدلًا من مطالبة نفسي بالمثل.

أنا فَزِعة من كتابة أو مشاركة مسوداتي… من تسمية وجودي. آمل أن يقوم شخص آخر بذلك بدلًا مني. حتى لغتي تخونني في هذه اللحظة، فأتحدث بلغة المستعمر، المختلفة عن تلك التي أحلم وأتألم بها. أواصل تكرار الحجج بشكل يومي تقريبًا (لأي شخص يستمع) حول قوة اللغة وأهمية تسمية الأشياء، لكن في الوقت ذاته أفتقر إلى الكلمات لتسميتنا أو حتى تسميتي. ما نملكه هو كلمات تُقدم طبقة واحدة في كل مرة. 

أترقب

رياحًا ستفتح بلطف هذه المياه المنهمرة

لمرة، وتريني ما يمكنني فعله

لأجلك، يامن جعلت غير المسمّى

مسمّى لأجل الآخرين، لأجلي حتى. 

“اكتبينا”، يتردد صدى الكلمات في ذهني بين الأخوات، والرفيقات، والحبيبات، والنساء اللواتي يحملن نفس نار الرغبة المحرمة؛ بإرادة للعيش أكبر من العالم وأقوى من الكراهية. اكتبينا، قولي إنكِ كنت شاهدة، ولم يكن الأمر كله خزيًا وأحلامًا محطمة. اكتبي قصص حب قوية لدرجة تحول الظلام إلى ظل مُتلطف، وخزائن كبيرة كافية لإقامة حفلات؛ فن العيش في بطن الوحش. اكتبي الأشياء الجيدة، والسيئة والقبيحة عن مجتمع مشابه إلى حد كبير لكنه مختلف، آثار أولئك اللاتي فقدناهن/م للموت، المرض، واليأس، وأولئك اللاتي علمننا أننا لا نستطيع النجاة إلا معًا.

أحيانًا بين أجساد النساء الراقصات، أسمع صدى الموسيقى يتردد عبر الزمان والمكان: لسنا الباكُورَة ولن نكون الختام، كما يحاول العالم جاهدًا إخبارنا.

بوصفي امرأة كويرية لا أملك سوى الكلمات، ما زلت أخشى رغبتي، واحتياجي إلى أرشفة هذا التاريخ نار مشتعلة داخلي، تلتهمني، ولا تنطفئ إلا بقبول توق وشوق الجسد، العقل والروح.

أود لو أمسك بيدك بينما نرتقي المَسلَك، لأشعر بشرايينك تتوهج في قبضتي.

بالنسبة لرفيقتي في التمشية الليلية، فقد انفصل مَسلكنا، انقسم إلى اثنين بثقل الحب والكراهية. عندما أُسأل عما حدث، عادة أجيب: “حدث الزمن”. أحيانًا استمر في تتبع خطانا في الشوارع القديمة ليلًا، أتتبع الماضي عبر أسطر شعرية في مجموعتي الشعرية المتنامية لأدريان وشاعرات/اء وكاتبات/ب آخرين. أخط أسطري بقلم رصاص لتتقاطع الكلمات مع حياتي، أصيغ خاصتي وخاصتها، رسائل متبادلة في أوقات الوجد والحسرة، وقصائد قُرأت بصوتٍ عالٍ في غرف النوم كتَعاوِيذ تحمي عالمًا من الأمل.

يبلغ الكتاب ست أعوام الآن، لكن الحِصن المشيد من الكتب والقصائد ليس قويًا كفاية لمنع العالم الخارجي من تسريب أسماء ووجوه النساء اللواتي تم جرهن عبر الشوارع نحو زنازين السجن لتجرؤهن على الرقص، على أن يكُّن نساء؛ تخمَّرت وجوه وأسماء الكويريات/ين المتساقطات/ين بسبب المجتمع. عندما أفكر في أمي الآن، أفكر في القوة التي تطلبها الأمر خلال تلك الأوقات للوقوف أمام عيني الصغيرتين وتلقي الضربات دون أن تخر على ركبتيها أبدًا، ذات القوة التي كان من الأَيسَر بالنسبة لي وصفها بأنها ضعف. رأيت فقط ضعفها. بإدراك التشابه مع والدتي ومع عديد الحبيبات، فقد عدت إلى نقطة البداية. لقد أدركت أن النجاة فن تتقنه النساء في بلد وعالم يستمر في ضربهن ووصفهن بالضعف لعدم قدرتهن على رد الضربة.

عندما أقرأ أدريان الآن، أحلم أنني أستطيع قراءتها لأمي، أول امرأة تعلمت أن أكرهها وأحبها. أريد أن أسألها، “هل علمتِ مخاطر الكلمات؟ ألهذا لم تريديني أن أكتب؟”

بالنسبة للمدينة، أفكر في ست سنوات دفعتني من الحلم بنص مثالي وكتابة رسائل الحب إلى صياغة خمس رسائل وداع تُسلم بعد المغادرة، لأن العالم كان فادِحًا للغاية وكان المهرب الوحيد حينها هو الحلم بنوم أبديّ طوعيّ بدلًا عن انتظار أسوأ نهاية؛ حياة بلا أمل، تطبيع كل القبح والعنف، وتحويل الكلمات إلى حبر على ورق فقط. 

هذا ما كنا عليه، هكذا حاولنا أن نحب،

وهذه هي القوى التي أعدوها ضدنا،

وهذه هي القوى التي أعدوها بيننا،

بيننا وضدنا، ضدنا وبيننا. 

  صرت أفهم أدريان أكثر وأراها كإنسانة وليست شاعرة فقط؛ أقدر الكلمات المخبأة بين السطور بدلًا من وصفها بالجبن، كما لو أن الخطر أقل واقعية لأولئك اللاتي همسن، كما لو أن ألسنتهن لم تقطع كلساني بسبب المطالبة باسترداد الأجيال مجهولة الهوية.

وهكذا كتبت، مفكرة في أيادٍ كثيرة، صاغت كلمات لن ترى نور الأرواح والقلوب الناجية التي تجرأت على المحبة حتى سمعت نفسها تتحطم. كلمات تسافر إلى جسدين فتيين يمشيان في شوارع مدينة باردة تعد بأمل ومستقبل أفضل، ما يؤكد صحة الحاضر.

ها أنا ذا، ها نحن ذا؛ نعيش، ننبتُ من الخرسانة، نتبع رائحة الرغبة، نسير نحو دقات القلب التي لا يمكن إيقافها. ونكتب، مسترشدات بشعر امرأة آمنت بالضعف الجذري والحنوّ. 

لو أن بإمكاني إخبارك،

فإن امرأتين معًا أمر ناجح.

 

 روي الجذور 

Share Button

حِيْنَ يكون القلب الوَحْدانِيّ قلبٌ كويريٌ وحسب

 

حِيْنَ يكون القلب الوَحْدانِيّ قلبٌ كويريٌ وحسب PDF 

كتابة : نور كامل 

ترجمة : سماح جعفر

جاحدة، تكتب وتحرر أشياء. تم اختيارها للقائمة القصيرة لجائزة جامعة برونل للشعر الأفريقي في ٢٠٢٠، ونشر لها ديوان شعر (نون) ضمن سلسلة الشعراء الأفارقة الصاعدين (سيتا).

 

عزيزتي سو،

لا يمكن أن يموت 

المحْب

لأن الحب أبدي

لا بل ربوبي

إيميلي. 1

***

 لُحْمَتي مع إيميلي ديكنسون تمتد لشعرها ولها كشاعرة فقط. لم أشعر قط بلُحْمَة مع إيميلي ديكنسون نفسها؛ فقد أخبروني بأن أشفق عليها. أخبروني: ها هنا امرأة لم يفهمها أحد، امرأة لم ترد أن يفهمها الناس، أغلقت نفسها عن العالم، لم تُحِبّ أو تُحَبّ أبدًا، وكانت تواقة فقط للموت. خَيَال قوطي رومانسي لاستبدال أي شخص يُسَمح لإيميلي بأن تكونه. حين فكرت في إيميلي، فكرت في مُتَوَحّدة مُنعزلة، بائِسة، فرضت عزلة على ذاتها، شغفت بعمق، لكنها انتظرت الموت عوضًا عن الحياة. كان العالم مُفْرِطًا. رفض العالم تضمين كل أجزاءها التي لم يعتمدها. أغلقت ذاتها لتحفظها. عندما ماتت، أخذوها على أي حال.

***

هذه رسالتي للعالم

الذي لم يكتب لي قط 2

***

أعيش بمصر، البعيدة جغرافيًا عن المكان الذي عاشت وماتت فيه إيميلي. في مدرسة ثانوية بريطانية وجامعة بريطانية، درسني آخرون عن تاريخها، شعرها، ثقافتها وكلماتها. لاحقًا، تعرفت عليها وحدي عبر شبكة معلومات افتراضية مَحْدُودة، رغم قدرتها على التوصيل وتبادل المعرفة لأنني لم أُمنح قط أجزاء كاملة من قصتها. على الأغلب، لن أرى أو أضع بين يدي أي شيء يخصها ماديًا؛ قصائدها، رسائلها وأوراقها المتبقية. أي شيء يخص إيميليٌ بحق. لن يكون لديّ سوى أشياء شكّلها وأعاد كتابتها آخرون، اِسْتُفرغت نحوي من خلالهم أولًا.

***

أن اقتني سوزان لي

هي غِبْطَة بحد ذاتها 

أَيًا كان المَلَكُوت الذي ضيعته يا إلهي

ابق عليَّ في هذا! 3

***

خلال “ليالٍ جنونية مع إيميلي” – مسرحية حولت لفيلم بواسطة مادلين أولنك – وعديد المقالات التي نتجت بعده، اكتشفت أن كل ما أخبروني به عن إيميلي خاطئ. كان لإيميلي قصة حب طويلة وموثقة جيدًا (تم محوها فيما بَعْد) مع صديقة طفولتها وزوجة شقيقها مستقبلًا سوزان غيلبرت. مزقت أولنك المرأة المثلية، عبر الإطار المغاير الذي حاصر إيميلي لفترة طويلة ونَقّح سوزان بالكامل. أظهر الفيلم إيميلي إنسانية جدًا، قريبة وكويرية. لم تكن الخيال الرومانسي التراجيدي لأي كان، سوى أولئك الذين قرروا جعلها كذلك لتبدو مستساغة. لم تكن علاقتها مع سوزان مخبُوءة قط، بل متجاهلة.

***

صدرها مُلاَئِم للؤلؤ،

لكنني لست “غَطّاسة”

جَبِينها مُلاَئِم للعروش 

لكنني لست في القِمّة،

قلبها مُلاَئِم للمنزل

أنا – دُورِيّ – بنيته هناك

بحلو الأغصان والخيوط

عٌشي الدائِم. 4

***

وعلى عكس ما علموني، فإن كل شوقها وطاقتها وحبها، لم تكن موجهة جُمْلَةً بطريقة مغايرة. لِعْبها مع النوع الاجتماعي، لِعْبها مع البنْيَة، تأثيرها على الحداثيين وما سيصبح أسلوب تيار الوعي، كانت كلها أشياء أشعرتني بلُحْمَتي معاها في كتاباتها، ومع ذلك شعرت ببعدي عن حياتها الحقيقية. شعرت بالخيانة والتضليل من الأكاديميين والعالم الأدبي (الذي يحكمه البيض) والذي قرر أن يصورها كمُتَوَحّدة غير محبوبة لم تتزوج أبدًا، وبالتالي لم تحب أبدًا، ولم تعش إمكاناتها الكاملة كـ “امرأة” في عالم مغاير. ولكن مثل سافو، لم تكن قصائد إيميلي موجهة نحو جنس بعينه قط، كانت تكتب دائمًا لمن تحبه وتشتاق إليه أَيًّا كانَ. معظم الوقت كانت تكتب لسوزان.

***

أن أشتاق إليكِ يا سو،

قوة. 5

***

حرر شعر إيميلي بشدّة بعد موتها، ورسائل حبها الموجهة لنساء حُرِّفَت لتبدو وكأنها موجهة لرجال، أو تم محوها بالكامل. معظم أشعارها نُشرت بعد موتها لأن لا أحد كان سينشر لها وهي حية. لم تتناسب كتابتها فِعْلًا مع أسلوب تلك الأوقات، ولم تنحني لأهواء الرجال الذين قرروا ما يستحق وما لا يستحق النشر. حدث هذا لفنانات عظيمات عدة مَرّاتٍ عبر التاريخ. العديدات منهن اضطررن لعيش حيواتٍ توقعها الآخرون منهن، ولم يُعترف بفنهن وحياتهن الحقيقية بالكامل! أُخذت كلماتهن، أو مُحيت، أو غُيّرت لتناسب القوالب والتوقعات المجتمعية، حتى يستفيد منها آخرون فحسب؟

مابل لوميس تود – أول محررة جمعت ونشرت قصائد إيميلي

محت أغلب ما يتعلق بسوزان بقدر ما استطاعت

سوزان المتزوجة من أوستن ديكنسون

أوستن الذي كان حبيب مابل، والذي أحبته مابل كثيرًا

عزلة إيميلي التي رفضت رؤية مابل قط

الإيميلي التي أحبت سوزان.

ليالٍ جُنُونِيّة

وتاريخ مدفون

لنساء أحببن نساء

ولم يمزقن بعضهن

كل شيء بَرّاق 

صار طَيّ الكِتْمان.

تلك التي لديها حبيبة

حبيبة امرأة تحبها

لا يمكن إخفاؤها للأبد

أو جعلها واقعة في “حُب” أي رجل

كتبت له الرسائل.

***

أمعنُ في احتمالية

منزل أعدل من نثر

وافر بالنوافذ

مُتَفوق – على الأبواب 6

***

كانت إيميلي كويرية، بكل معنى تاريخي للكلمة. كانت الأساطير حولها أنها أُسيء فهمها – وقد كان كل ذلك مخططًا له، لكنه لم يكن إيميلي. لقد رغبت في أن تُعَرَف وتُفَهَم، أرادت لكلماتها أن تُنَشَر وتُقَرَأ. جعلت مابل لوميس تود – بصفتها محررتها وناشرتها بعد وفاتها – إيميلي صالحةً للنشر عبر إزَالَة كل أثر لكويريتها، بِذاكَ جعلتها مَجْهُولة، أُحْجِيّة خلال العملية.

الموتى لا يخشون شيئًا. ولا إيميلي الحية أيضًا. فقد بعثت كلماتها واشتاقت للنشر كأي كاتبة. لم يرد أحد كلماتها “الكويرية”، أسلوبها غير المَسْجُوع، واسمها المجنسن.

***

أين احترام الموتى؟ 

لمَ الآن – بعد أكثر من مئة وثلاثين

سنة منذ أن وجدت –

وكتبت الكلمات – لمَ

عادت للأضواء – للوعي

للشِعْرِيَّة الكويرية

وسُمح لها – أن تكون شِعْرِيَّة كويرية؟

حتى القرن الواحد والعشرين تقريبًا

قبل أن ترى امرأة امرأة أخرى بالكامل

وتُخبرنا أنها أحبت – امرأة؟

أعتقد – أن جميعنا نعرف لمَ.

لأجل النساء اللواتي مُحين، النساء اللواتي تم تجاهلهن

ولأجل النساء اللواتي يحببن نساء

ويدعنّ إيميلي تحبهن – أيضًا –

أمام العالم كله.

لا أحد سيعرفها قط.

من الأفضل أن نصنع أسطورة – بالتأكيد

من شاعرة مُخرَسةٌ وصامتة؟

لنخلق من كلماتها سردية المرأة

منبوذة الحب – المشتاقة للحب ، الذي لن تحققه أبدًا؟

التي – قطعت كلماتها – جُمعت مجددًا

وقدمت لدعم هذا؟

***

يُعد النجاح أحلى

لأولئك الذين لم ينجحوا.

لأن استيعاب الرحيق

يتطلب أشد الحاجة. 7

*** 

عرف المؤرخون. أنه شيء

– على ما يبدو – يصعب تفويته

إلا لو كنت لا تبحث عنه حقًا –

إلا لو كنت عاجزًا عن تخيل أي شيء بَرّانِيّ

ما الذي أردته من إيميلي – أن تكون حياتها

مثل أسرتها – مثل موثقيها المهووسين

وأولئك الذين يقعون في حب مغاير –

مع فتاة ميتة كتبت كلمات عن اشتياق الحب –

الذي ملكتهُ دائمًا. لكن ليس بطريقة

تمكنها هي أو سو –

من أن تكونا – معًا.

***

قل الحقيقة كلها ولكن قلها مائلة –

نجاح الجَوْلَة يكمن

بَهِيجًا جدًا لأجل فرحتنا العاجزة

لابد أن تخفف مفاجأة الحقيقة البَدِيعة

كما يخفف البَرْق  للأطفال

ببعض الشرح

على الحقيقة أن تضيء تدريجيًا

أو سيصير جميع الرجال عميانًا – 8

***

الموت ، الأسطورة – والخلود.

كيف تريد لنا أن نتذكرها؟

لا أحد يتوقع المحو، لكنه واقع

هدية من الموت. الخْزي التالي للموت

ظاهرة غير مُعللة، ولا

تبدو هيئتها بذات الحال أبدًا. 

***

لأنني لا أستطيع التوقف لأجل الموت

فقد توقف لأجلي بكياسة 

لم تحمل العربة سوانا 

والأبَد 9

***

صار نقص الحب – رغم وجود الحب بعدة أشكال هناك – اسمها المستعار، بطاقة تعريفها. أَفَلَت ملكة القلوب الوَحْدانية من نقص الحب. أصبحت إلهة الحب المر كالعلقم، بفعل تجاهلها وفقدانها وعدم حبها لعِلّة في شكل مجتمعنا. لم تكن إيميلي محرومة على الإطلاق. احتاجت إيميلي لتغيير شكل المجتمع لنفسها. رأى المجتمع والمحيطون بها أن ذلك تَحْقِير، تحديدًا أنثوي. من يستطيع أن يعيد تشكيل المجتمع وحده؟

***

أرني الأبَدِيّة، وسأريك ذِكْرَى

كلاهما بحزمةٍ واحدة

رفعت مرة أخرى

كوني سو – بينما أنا إيميلي –

كوني بعدها — ما كنته دومًا — اللا متناه. 10

***

لقد استرددتُ إيميلي كشيء يخصني. لو لم تخبأ الأجزاء المتسقة بين حياتها وحياتي لوقت طويل، أكنت سأقرأها بعمق أكثر؟ أمنحها المزيد من وقتي؟ سأمنحها الآن – لقد منحت كلماتها وزنًا أكبر وسعيت إليها، عطشة لما قد قرأته على أنه كويري فيها، وأخبروني بأن ذلك غير ممكن على الإطلاق.

أُخبِرتُ بأنها ليست مفهومة تمامًا وأن بعضنا يجب ألا يحاول قط. لكننا ثابَرنا، تَنَقّلنا، تظاهرنا بمئة هيئة والتزمنا بتَيَقّننا – بأننا كنا موجودات دومًا. بعضنا لن تتوقف مطلقًا عن البحث عن ذواتنا في التاريخ، لأننا نكون هناك في كثير من الأحيان – نحملق في ذواتنا، قَوْمنا، عَشِيرَتنا. أسلاف وأَعْقاب نجون رغم كل شيء، عشن حياتهن بكليتها، كما نحاول أن نجد طرقًا لعيش حياتنا الآن.

***

لقد اعْتَزَمت أن

أكتب لك إيميلي اليوم 

لكن الطُمَأْنينَة لم تكن إلى جانبي

لذا أرسل لك هذا ، لئلا يبدو وكأنني

رفضت قبلة –

لو أنك عانيت خلال الصيف الماضي

أنا آسفة لأني

إيميلي تَكَبّدت تَحَرّقًا

لم أكشفه قط – – إذا تمكن

بلبلٌ من الغناء وصدره قبالة

شوكة ، لمَ لا نفعل المثل

سَوْفَ أكتب حين أستطيع

سو 11

روي الجذور 

Share Button

حبّ عنيف أم عنف طبقي؟ التواطؤ مع سرديات التمييز في رائحة القرفة

 

حبّ عنيف أم عنف طبقي؟ PDF

كتابة : رولى الصغير

رولى تعمل على قضايا العمل والهجرة والجندر. تحلم بدبلجة برامج الأطفال. تكتب أحيانا وتعيش في حالة أزمة وجودية دائمة.  

 

قد تكون الكتابة فعل اختزال، لأنّها تتمحور حول نمذجة واقع أو رغبات واحتياجات فرديّة ومجتمعيّة بواسطة لغويّة، أو قد تكون فعل تخيُل وخلق. من خلالها، بإمكاننا تأريخ حيوات وجعل أشخاص ما أبطالا أسطوريّين. كما بإمكاننا الانتقام من الأعداء وتحجيمهم وتحويلهم إلى نكرة. بإمكاننا تجريدهم من إنسانيتهم أو إعطائهم ملكة الطيران… الكتابة تقرّر كلّ ذلك في سلطتها التمثيليّة. قد تسمح لنا بأن نجد أصداء لأنفسنا في طيّات التاريخ، أو أن نتخيّلها في المستقبل، أو قد تمحينا تماما كأنّنا لم نوجد قطّ. سواء كنا نساء كويريات، عاملات جنس، عابرات، عاملات منازل ريفيات ومهاجرات، نساء ملونات، سمراوات أوسوداوات، تمّ تجاهلنا ومحونا عدا من كتابات نادرة وأخرى لم ترَ العالمية. إلى أن أتى يوم كانت سياسات التمثيل ملزمة بإضافتنا كالبهارات إلى الطبخة، أو كوسيلة لتحقيق مصير البطل الأساسي في تنافسيّته مع شخصيّاتنا، فالغاية تبرّر الوسيلة. وإن ساهمت شخصياتنا العرضية في تطوير البطل، فلا بأس بإضافتنا. ووجدت شخصيات غير نمطية طريقها إلى الفضاء العام المدوّن غالبا بلغات بلاد الشمال. 

لكننا لا نرضى بهذا القليل، ونبحث كنساء ملونات وجنوبيات وفقيرات وكويريات وعابرات ولاجئات عن قصصنا بين رفوف المكتبات وسطور النصوص وأبيات الأشعار في بلداننا. نبحث عنهنّ لنجد أنفسنا، لنعرف أنّ لدينا سلالة وتاريخا مكتوبا بأقلام عربيّة، تدوّن حيوات من مناطقنا الزّاخرة بالحميمية. نبحث عنه حبرا على ورق، نظرا لأنّ حكايا جدّاتنا أو تاريخنا الشفهي لا يثمّن في ظلّ الوضع الراهن كما تثمّن الكتابة، ويتمّ إقصائه على أنّه ثرثرة نساء. نبحث عن الشرعية، عن “أدلّة” طالما طُلب من النساء إحضارها لأنّ عبء البرهان يقع دوما على عاتق الأقلّ سلطة. كأنّ غياب البرهان ليس حجّة كافية على الاستضعاف التاريخي والتسكيت! خلال بحثنا عن أنفسنا في وجوه شخصيات رئيسيّة في روايات كتبتها أقلام متمحّصة في حيواتنا، غالبا ما نجد رغبة تلصصية في “كشف المستور” أو التعبير عن “الجرأة” أو نزعة استشراقيّة  ذاتية “منقذة” مؤمنة بوجوب ملء كلّ خانات الهويّات في الكتابة على سبيل “التنويع”… هوّيات قد لا تعنينا أصلا. نبحث عن صور هاربة من النمط السائد، تخفف من الظلم التمثيليّ ولو قليلا، ونأمل أن نجدها بأقلام النساء. هكذا بحثت – للكتابة في هذه الاصدارة – عن نساء أحببن نساء، جهرن بحبّهنّ أو أخفينه، لكنّه ترك آثارا مكتوبة. فوجدت كتاب “رائحة القرفة”  لسمر يزبك 1 على كلّ لائحة للكتابات الكويريّة من المنطقة، كأنّه منشور كلاسيكي. احتُفي به لدى صدوره باعتبار أنّه يفتح “عوالم مغلقة وممنوعة من الإشهار” كما ذكر غلافه والمراجعات الأدبية المتبنّية لكويريّته، أو خروجه عن النمط وعن المألوف. أمسكت الكتاب وقرأت الغلاف بتأنّ أكثر؛ هو عن “علاقة سيّدة دمشقية بخادمتها” حيث “تتحوّل هذه العلاقة إلى لعبة قويّة في يد الخادمة وتجعل منها المبرّر الوحيد لشعورها بإنسانيّة مفقودة”. قرأت الجملة، فانبعثت منها رائحة – لا للقرفة – بل للقرف. لم يكن “الحكم على الكتاب من الغلاف” من باب التهور، من الواضح أنّ الجملة التسويقية الملخصة له تعتمد سرديّة السلطة؛ سيدة برجوازية تمارس الجنس مع خادمتها وتفتخر أو تشكو أنّه يمنح الأخيرة الإنسانية!

   وأحيان أخرى تكون الكتابة عن الجنس بين النّساء فجّة وواضحة، أو جريئة كما يحلو للتقدميين تسميتها، في حين أنّها لا تتعدّى مساهمة سطحيّة في تسليع رغبات النّساء لقرّاء رجال يتخيّلون أجسادنا وعواطفنا متنفّسا لإرضاء تلصصهم الجنسي. وإن لم تُرضِ هذه الكتابات نظرة المتفرّج المحدّقة، قد ترضي الذوق الأخلاقي الرافض لهذه العلاقات باعتبارها غير شرعيّة ومنتهية بالدمار أو الموت أو الجنون. كأنّ لسان حال الكتب يقول: إن لم يكن هناك مكان للنساء الكويريات بين طيّاتها، فليس لهنّ مكان على سطح الأرض في مجتمعاتنا. توجد علاقات كويرية استغلالية، ويوجد الاغتصاب بين النساء، ويوجد جنس فجّ يسلّي المتلصص أكثر من تسليته أو إشباعه لممارسيه، ويوجد دعك مؤخّرة أفلاطونيّ، كما يوجد السمج والباعث على الغثيان، وآخر مرغوب وعدم مصرّح به. كلّه موجود، المجحف ألّا يوجد في خيالات الروائيين ولايخلّد في كتاباتهم غير هذا. 

لم تكن “رائحة القرفة” مختلفة. فقد اشتهرت بكون إشكاليّتها الأساسية علاقة حبّ بين سيّدة وخادمتها. قيل إنّ الرواية شجاعة في تصوير الحقائق بالتصريح لا التلميح، حقائق تتمثل في العوالم السحاقية الدمشقية المغلقة – على ما يبدو – تصوّرها الكاتبة “دون خجل”، كما تقول القراءات الاحتفائية. بيد أنّ الخجل الذي يحتفي القارئ بانعدامه لدى الكاتبة منسوب إلى عدم إخفائها ما كُني بعلاقات الحبّ المثلية بين النّساء، أو علاقة استغلال من الخادمة تجاه السيدة، لا الخجل الذي يجب أن يكتنفنا حين نسطّح العنف الجنسي والاقتصادي بثوب تسويقيّ من المساحقة، أو حين نشرّع لفكرة “الاستغلال العكسيّ” كالعنصرية العكسية، أو كره الرجال كمقابل لكره النساء، وغيرها من التّرهات. “من كانت عليا؟ خادمتها حقّا؟ من هي؟ تعرف أنّها كانت سيّدة هذا المكان، ولا تذكر متى انقلبت الأدوار بينهما.” يحملنا الكتاب لنستكشف الأسئلة الخاطئة، إذ أنّ الأسئلة الخاطئة موجودة رغم أنف الصوابية السياسية. 

لا شكّ في أنّ سمر يزبك تمتلك قلمها وأنّه يستجيب لها لتصوير أدقّ اللحظات التلصصية في بيئات محرومة وأخرى مرفّهة. لا شكّ أنّ معرفتها بالتفاصيل السياقية لتواريخ أحياء دمشق فائقة. لا شكّ في أنّ امتلاكها لملكة اللغة كامل. لا شكّ في أن شخصياتها معقّدة ومتعدّدة المستويات، وأنّ كتابتها شيّقة. الشّك هنا في قدرتها على إيفاء كلّ صاحب حقّ حقّه عند تصوير العلاقات بين النّساء، والعتب هنا هو في تصويرها لعلاقة استغلال سيّدة لخادمتها على أنها علاقة حبّ. 

كُتب هذا الحبّ المتوهّم بطريقة ملحمية؛ بين حنان الهاشمي (امرأة في منتصف العمر من أغنياء دمشق) وعليا التّي لا نعرف لها كنية واسم عائلة… فتاة نكرة اشترتها حنان لتخدمها. بل أنكى، بدا كأنه حب من طرف واحد، ظُلمت فيه حنان. هكذا – بطريقة عرضيّة – تمرُ الرواية على كون إحدى “العشيقتين” قد اشترت الثانية من أبيها كأننا في سوق نخاسة، وأنّ الثانية انتقلت إلى بيت سيّدتها طفلة. يتجاوز الكتاب هذه الأحداث ليقول لنا إنّ عليا تقوم باستغلال سيّدتها، وذلك في سبيل الحصول على “الإنسانية”. إذ تقول المُسَلّمَة الضمنية للكتاب والجملة التسويقية على غلافه ألّا سبيل للحصول على الإنسانيّة لعليا سوى من خلال مجامعة سيّدتها. وهي مُسَلّمَة طبقيّة بحتة، نظيرة المُسَلّمَة الذكورية التّي يتشدّق بها الرّجال الذي يقومون بـ”الاغتصاب العلاجي”، حين يقولون إنّ النساء المثليات يستمدن “السّواء” الجنسي من أيورهم. عليا فاقدة للإنسانية – على ما يبدو – وجسد حنان الهاشمي مركبة تحملها إليها، أو وعاء تتشكّل إنسانيّتها من خلاله. يتجلّى الانحياز للطبقة المرفّهة واضحا بتصديق الكتاب لهذه الفكرة المثمّنة للجنس مع من هم أغنى منّا وأعلى مرتبة كتسلّل طبقيّ وتحرّكية اجتماعيّة نحو الأفضل. وياليت ذلك الأفضل قد تُرجم إلى حساب مصرفيّ عامر بالأموال أو بحافظة نقود مكتنزة، في صفقة تجارية واضحة نستبدل فيها كدحنا الماديّ-الجنسيّ بمقابل ماديّ-ماليّ. لكنّ الطبقة المرفّهة تعتبر أنّ ممارسة الجنس معها في حدّ ذاته مكافأة كافية، إذ أنّها تعبر بنا من واقعنا المهمّش إلى الحصول على اكتفاء “وجدانيّ” وملذّات تكمل أرواحنا وشخصيّاتنا الناقصة، فنستمدّ “الإنسانية” من أيور وفروج البرجوازية. 

ألبست الرواية شخصيّة عليا ثوب سندريلّا، وأطنبت في إقناعنا بأنّ عليا تتحوّل – كأنّما بسحر – إلى ملكة تتربع على عرشها أثناء الليالي، قبل أن تعود خادمة في وضح النهار. (ص17) لكنّنا لسنا في حكاية خيالية تكون فيها حنان جنّية طيّبة وعليا سندريلا فقيرة، تتشاركان ليلة احتفالات قبل أن يأخذ الواقع مجراه، بل نحن في بيت لزوجين يستغلّان نفوذهما في اضطهاد الخادمة بكلّ الطرق الممكنة. “من كانت عليا؟ خادمتها حقّا؟“، تتسائل حنان الهاشمي مرّات عديدة كأنّها تُشرك القارئ في التفكير في هذه المعضلة التي حيّرتها. في حين أنّ الإجابة واضحة: حقّا كانت خادمتها. هي خادمتها المحبوسة في الحيّز الخاص، وفي أمّية شاء سيّداها أن يفرضاها عليها، إذ مُنعت عليا من الخروج من منزل أسيادها كما مُنعت من قراءة الكتب، (ص29) فذلك لا يليق بخادمة. انتبهت عليا بعد سنين من العمل لدى حنان أنّها لم تملك سوى ثياب الخدمة: هي لم “تملك سوى بنطلون من الجينز الأزرق، وقميص أبيض اللون. وعدا ذلك فكل الأثواب المحشوة بها خزانتها هي للنوم أو للخدمة في المنزل”. (ص30) لا عجب، إذ أنّ سيّدة عليا رسمت حدود حياتها في الخدمة المنزلية والجنسية.

لم تسمح عليا في طفولتها للصبيان بـ”دعك مؤخرتها”، في حيّ الرّمل المدقع في الفقر والمتربّص بفرص اضطهاد نسائه وأطفاله. ولم تكن الأمور الجنسيّة تغيب عنها، حين طعنت مغتصب أختها الكبرى المشلولة، ومغتصبها هي، في سنّ العاشرة. لن أفترض هنا أنّها كانت طفلة غشيمة حين اشترتها حنان. بل كانت عليا فطنة وقد دعكتها الحياة وتعلّمت كلّ فنون الدّفاع عن النّفس ونجت في كثير من الأحيان من العنف الجنسيّ المسلّط عليها كطفلة بين حاويات الزُبالة. لكنّها لم تنج من حنان الهاشمي وزوجها أنور “التمساح المتفسّخ”. لا أفترض هنا أنّ عليا قيدت إلى الجنس معصوبة العينين غافلة، ولا أنّها كانت “منبهرة بعوالم سحريّة” تختفي في فرج سيّدتها. بل قيدت عليا إلى كلّ ذلك عارفة، لكنّ معرفتها لا تعني نجاتها، ولا تعني سلطتها. فـ “المعرفة [ليست] سلطة” ما لم نمتلك السلطة نفسها، وهذا ما غفل عنه رجال كفرانسيس باكون، صاحب المقولة، وفريدريك نيتشه الذي ظنّ أنّ وجوده مستمدّ من تفكيره. هؤلاء عاشوا ضدّ الجدليات المادية التاريخية، ناسين امتيازاتهم، ومفكّرين أنّهم قد استمدّوها من ذكائهم الخاصّ؛ أنّ تفكيرهم نتاج عبقريّتهم لا تجاربنا المشتركة وموقعياتنا المختلفة، وأنّ سلطتهم الفكرية تترجم بالمادة، أي أنّ الفكرة تسبق المادّة لا أنّ امتيازاتهم المبنيّة على ظهور غيرهم خوّلت لهم نشر أفكارهم. ليست المعرفة سلطة – إذن – في غياب السلطة نفسها، رغم أنف الليبرالية التي تخبرنا أننا متى كنّا ذكيّات سننجح في امتحان الرّأسمالية ونعيش حيوات لائقة أو كريمة، وأنّ فشلنا هو نتيجة تقاعسنا وغبائنا، أو أننا متى درسنا سننجو من الاستغلال الجنسي على عكس الفتيات الأميات، كما يقول لنا طه حسين في دعاء الكروان. قد تجعلنا المعرفة قادرات على أن نتوقّع المآسي التّي ستطأنا، قد تسمح لنا بأضغاث ثانية نغمض فيها أعيننا احتسابا كي لا تُدنّس بالمصاب، أو نحاول امتصاص المرارة والمضيّ قدما كي لا ننكسر. لا أكثر. فنفعل ما علينا أن نفعله، ما يخوّل لنا سياقنا أن نفعله، لنحمي أنفسنا، أو مواردنا أو عائلاتنا. نُعنّف ولا نبلّغ، أو نُغتصب ونسكت. ولا لوم علينا ولا ادّعاء أنّ المعرفة تحمينا من كلّ ذلك. كون عليا لم تطعن حنان الهاشمي حين قادت الأخيرة أصابع الخادمة “إلى حيث ترغب” في حوض الاستحمام، وحين عبثت بجسدها وقبّلتها عنوة ثم طردتها حين اكتفت، ليس دليلا على وقوع عليا في الحبّ الملحميّ العنيف الذي تحاول الرّواية جاهدة أن تُبلعنا إياه فنستفرغه. يجوز أنّ عليا تستهويها النّساء، ويجوز أنّها قد تستمتع بالممارسات الجنسية بينها وبين سيّدتها، لكنّ ذلك لا يجعل الممارسة رضائية بطريقة آلية. تبلّغ الناجيات في أحيان كثيرة أنّهنّ لمن أنفسهنّ إن أحسّت أجسادهنّ بأي مسحة متعة عند الاغتصاب، فخلق ذلك عندهنّ صراعا بين القابليات النفسية والجسدية المتضاربة، وصرن يشكّكن في سوائهنّ ويستحين من الجهر بأن ما حصل لم يكن مرغوبا. وفي حالة عليا، موازين القوى لم تكن لصالحها، وهي تعرف جيّدا أنّ “كلّ ما عليها فعله هو أمر بسيط – الطّاعة” (ص44) في علاقة المخدومية مع حنان. وبالتّالي، فإنّ أقلّ ما يقال عن تصوير هذه العلاقة كـ “لعبة” في يد الخادمة الطفلة إنّه مستفزّ، إن لم يكن مسطّحا للعنف ومشرّعا له. نجت عليا إذن من الشوارع لكنّها لم تنجُ من المنزل، ذلك أنّ الشارع – رغم قسوته على النّساء والفقراء والأشخاص الكويريين – كان أكثر أمانا عليها من بيت مخدوميها. فالفضاء الخاصّ الذي نطلب فيه الأمان غالبا ما يكون أكثر الأماكن خطرا علينا. 

هوس حنان الهاشمي بعليا كذلك فوقيّ ومتسلّط، تفكّر أنّ غطاء رأسها البالي “مصدرا للجاذبيّة”، على سبيل الحلوى المغلفة أو الدجاجة غير المنتوفة أو البطيخة غير المقطعة. حنان تكشف الحلوى طبعا لأنّها تقدّمية لا تريد خادمة طفلة محجّبة، رغم أنّ حنان نفسها تستخدم وشاح رأس على ما يبدو، لكنّ رمزيّته تختلف، فتجد حنان حجاب عليا جذّابا كثمرة استوائية، بينما غطاء رأسها اعتياديّ لا يسيّل اللعاب. تارة تخبرنا أنّ وجه عليا “منحوت بدقّة وجمال أكثر ممّا يحتاجه وجه خادمة”، وأنّها معجبة بنظراتها التّي لا تشبه نظرات الخدم التي “تتراوح بين الحزن البليد والأسى الصبور”، وتارة أخرى أنّها سمراء هزيلة وسافلة و”متسوّلة قبيحة”. (ص14) في النّهاية، هي “خادمة لا أصل لها ولا نسب”. (ص21) كلّ هذا في مقارنة مع حنان، مركبة الخدم تجاه الإنسانية المفقودة.

يطغى “طعم الخيانة المباغت” على حنان الهاشمي، وقد قبضت على عليا متلبسة بالجنس اليدوي على “التّمساح المتفسّخ”. وحاولت إقناع القارئ في مونولوجاتها الطويلة أنّ عليا غدرت بها وبحبّهما. كون الفتاة “متسوّلة قبيحة”، يؤمن الراوي العليم وحنان سويّا، أنّ عليا لا بدّ وأن تكون قد أغرت الحيوان. فإن لم تنتصب قطعة لحمه الرّخوة رغبة في زوجته، كيف تنتصب لخادمة بشعة لو لم تكن بذلت كلّ فنون المكر في سبيل لحمة متهدّلة لرجل عجوز؟ أسئلة عبقريّة فعلا تطرحها الرّواية، إذ لا احتمال آخر يرد لتفسير المعضلة، سوى ذكر عابر لبرطمة عليا بسخرية بعد طردها كلمات أمّها: “ظلّ راجل ولا ظلّ حيطة”. ذلك الرجل-الحائط، أنور، كان جاثما على صدرها بثقل، كزوجته، ويخال اثناهما أنّهما بريئان. وفي حين تصبغ الرواية علاقة حنان وعليا برومانسية مفتعلة وحبّ مزعوم، تعتبر العلاقات الجنسيّة بين النّساء شيئا من اثنين؛ إمّا “شغفا وانجرافا حارقا” إن كان بين نساء من ذات الطبقة، أو قابلا للكبّ. تلخّص حنان علاقتها بعليا، بعد دائرة مفرغة من إيهامنا بوجود مشاعر ما، عندما تقول لنفسها: “هي مجرد أصابع، استبدليها بغيرها” (ص22)، معيدة عليا إلى مكانها الحقيقي، حيث تستغلّ الطبقة العاملة وتُذكّر يوميّا أنّها قابلة للاستبدال. هذه الرّواية ليست عن نساء يحببن نساء، بل نساء يستغللن أخريات. فليس أنور التّمساح المتفسّخ الوحيد في الرّواية، بل تجاريه حنان في تفسّخه.  

في فعل الكتابة الروائية، يـ/تتملّص الكاتب/ة أحيانا كثيرة على أساس مسلّمات ضمنيّة، أهمّها أنّه/ا محايد/ة ومعصوم/ة من تبرير الأحداث، لأنّ الفنّ لا يبرّر وهو ينقل تجربة واحدة فريدة، ولا يتحدّث بالضّرورة عن تجارب الجميع، وذلك لسببين: الكتابة الإبداعية كمخرج لنسب الكاتب/ة وكالته/ا الفكرية في مضمون النّص إلى “الالهام”، أو الكتابة الواقعيّة كأن يقع التملص من خلال لوم “حقائق الحياة”. لا تقتصر أسطورتا سيطرة الإبداع على المضمون والتزام الكاتب/ة بالحقائق على تحصينه/ا من النّقد، بل تتجاوز ذلك إلى نشر قيم سياسيّة ومجتمعيّة تعيد صبّنا في قوالب جاهزة، قائلة شيئا من اثنين: هذه تجربة واحدة فريدة من وحي الخيال ليس الكاتب مجبرا على تبريرها أو تمثيلها بطريقة غير نمطيّة، أو هي تجربة واقعيّة ينقلها الكاتب بأمانة… فـ “صه”. الإشكالية في رائحة القرفة ليس كونها تتناول شخصيات أو علاقات قد تكون مثلية، وليس الغضب الناجم عنها متعلّقا بتفكير طهرانيّ عن هكذا علاقات، أن لا استغلال فيها. على العكس تماما، لسنا ملزمين كأشخاص كويريات أو فقيرات أو ملونات بإنتاج قصص حبّ بريئة ونظيفة تعجب الذائقة العامة وتكون خالية من العنف والابتزاز واللابطولة. ومن الممكن والضروري أيضا الكتابة عن علاقات كويرية استغلالية. اللغط هنا في أمرين: تصوير رائحة القرفة لعلاقة استغلال على أنها علاقة حبّ، واحتفاء الجمهور بهكذا كتابة تحرّرية، والأنكى اعتبارها حليفة للكويريين ومصوّرة لعوالمهم. باختصار، ليست الكتابة تحرّرية ما لم تحرّرنا.

 روي الجذور

Share Button

بحْثًا عن رغْبة كويرية: رسالة لأليفة رفعت


بحْثًا عن رغْبة كويرية: رسالة لأليفة رفعت pdf

كتابة: هند ونادين 

ترجمة: سماح جعفر

هند ونادين كاتبتين كويريات من الإسكندرية، وهن أيضا محررات ومترجمات. 

 

“تضج الحياة بالألغاز. قوى غير مرئية في الكون. عوالم أخرى غير العالم الذي نعرفه. روابطٌ خفية، وأشعةٌ تجذب الكائنات لبعضها، ويتداخل تأثيرها. يمكن أن تندمج معًا، أو أن تكون غير متوافقة مع بعضها. يومًا ما، يمكن للعلم أن يصل إلى وسيلة تربط كل العوالم، مثلما استطاع العلمُ أن يجعلَ من السفر إلى كواكب أخرى حقيقةً ممكنة.. من يعلم؟ 1” – أليفة رفعت

 

عزيزتي أليفة/فاطمة 2

لقد كنت أبحث عنكِ، عن حكايتكِ، أجمع السرديات المختلفة معًا. تارَةً أبحث بعجالة، باندفاع حتى، كما لو أن حياتي تعتمد على الأمر. وتارَةً أبحث بِدِقّة، أفكك الصفحات والكلمات والحكايات، كما لو أنني أبحث عن نفسي، عما يشبه المعنى في “عالم مَجْهول”.

حين اعترفتُ لنفسي أنني أحب صديقتي المفضلة “صَفِيّتي” واعَتَرفَت لي بدورها، وجدتني أبحث عن حكايتنا في كل مكان؛ في حكايات الآخرين، وفي الروايات والأفلام. بدا الأمر كما لو أنني أبحث عن مَوْطِن أو نعيم أو مكانٍ آمن أو تاريخ مشترك شائِع مع نساء مثلنا… نساء أحببن نساء.

كنت أبحث باهتمام، أقرأ بين السطور، كما لو أنني أعيد كتابة قصص الآخرين في مُخيلتي، أقبض المعاني، وأخلق شيئًا من لا شيء.

قبل بضعة أعوام، عادت أختي إلى المنزل بمجموعة من الكتب المستخدمة التي اشترتها. كنت أبحث عن شيء خفيف لأقرأه. وجدت كتابًا هزيلًا، وهي مجموعة قصصية باللغة الانجليزية عنوانه “بعيدًا عن المئذنة” كتبته أنتِ. لأصدقك القول، فإن شكل الغلاف والتعريف في مؤخرة الكتاب كان بهما نمط اسْتشراقي أصابني بالغثيان. استُخدِمت في مقدمة المترجم كلمات مثل “رفعت الخمار” و”المجتمع الإسلامي التقليدي” و”الأصالة المميزة”. بدا الأمر كما لو أن عالم أنثروبولوجيا يحدق خلال عدسة مكبرة موجهة نحو مجتمعات غير بيضاء. على كلٍ، كان لدي القليل من وقت الفراغ، وفكرت “لمَ لا؟!” 

ثم في واحدة من قصصك، في أكثر مكانٍ مستبعد بينها جميعًا، وجدتُ أثَر رغبة مَألُوفة ومُتَعَاظِمة وعاطِفِيّة في الخفاء. كانت للشخصيات أسماء عربية. دارت أحداث القصة في منزل على ضفاف النيل في المنصورة. حدثت القصة في هذا البلد. هنا. في الوطن. امرأتان. تشتهيان وتحبان وتزفران لَذّة. رأيت القليل مني في كلتيهما: الإنسية، الزوجة الوقورة لمسؤول حكومي، التي يراها المجتمع بطريقة معينة، وتحس بارتباك داخلها. والمرأة الأخرى، الحَيّة، الجِنية، التي تتسلل جيئة وذهابًا خلال فَجْوَة خفية في الحائط. تختفي قبل أن يلمحها الآخرون. متخَيلة لكنها مَحْسُوسة ومُتَنَفسة وحقيقية.

أنا مَأخُوذة بعالم شخصيتك الأساسية. تمُر الأشهر، لكننا بالكاد نعرف الأحداث الخلفية. عوضًا، أنا مأخوذة – كما هو حال شخصيتك الرئيسية – بعلاقة الحب مع الحَيّة التي ظهرت لها ذات صباح مشمس في الحديقة. علمتُ أن لديها أطفال، لكنني لم أتعرف عليهم. يُلمَح زوجها في الخلفية فقط، وهو السبب وراء انتقالها من القاهرة إلى المنصورة. في بعض الأحيان يكون مصدرًا للذنب. حين تتوق إلى رؤية الحَيّة، يدفعها الذنب لإخبار زوجها عن وجودها، ما يدفعه إلى الصعود إلى الفجوة في الجدار حيث ظهرت الحَيّة أول مرة. أنت لم تمنحيها هي أو الحَيّة أسماءًا أبدًا. تعرفان بعضهما باسم “المحبوبة” فقط. تنزلق بطلتك من وإلى هذه العوالم: تقضي نصف اليوم في تَأثِيث منزلها والنصف الآخر تستهلكه في علاقتها مع محبوبتها الْجِنية الحَيّة.

أنا أيضًا كالحَيّة، أنزلق من عالم إلى آخر. بين عالم مُسْتَتِر وآخر مَنْظُور. جسدي مفقود في أحد العوالم، موجود فقط بشكله المادي، يؤدي الواجبات والتوقعات المجتمعية. لكن في الآخر، أتكشف وأتحقق، اسْتجلى معالم الرغبة. تصورين انقسامًا حادًا بين العالمين، حَيْث العالمين خاصّتِي يتصادمان دائمًا، وأصبح غير قادرة على التزام المُسْتَتِر أكْثر فَأكْثر. تصبح الفجوة المتبقية بين العالمين مُشْبَعة بالغضب والمرارة. أفكر في ذلك اليوم، جالسة في الحمام، أبكي بفؤاد منكسر عقب محادثة ثقيلة على الهاتف مع حبيبتي. ماما في الخارج تُدندن، ساهية عن ألمي. أكافح لأكون حاضرة، لأتظاهر أنني بخير. أنا منهكة، هل أحسستِ بالشيء ذاته؟

أكنت ممزّقة بين عالمين حين قررت اعتماد اسم “أليفة”، في محاولة – كما قرأت – لتجنيب أسرتك خِزْي تعريفك كامرأة تكتب عن الجِنْسانِيّة “دون خجل”؟ كيف التقى عالماك وكيف تباعدا؟

بعض الأشياء تبدو سهلة عندك. تعايش الدين والرغبة في نفس العالم. تصورين حبًا مُتَحابكًا بآيات من القرآن. الحَيّة الْجِنية تظهر بـ “أكثر شكل مُتْقَن للجمال”، شكل امرأة، تحمد الله وفي نفس النفس تفخم مزايا حبيبتها. أخبروني دائمًا أن الإيمان والرغبة، لاسيما الرغبة الكويرية، لا يمكن أن يمتزجا. قدر لهما أن يكونا على جانبين مُتقابلين من حلبة الملاكمة، يخوضان صراعًا شرسًا وأزَلِيًّا. أنْ أرى تصورك عن “الحب الحلال”، الذي باركه الله تعالى نفسه، حب لم يهز عرش الرحمن، هزني ذلك حتى النخاع. أنْ أرى النَّيْك كتَغْذية وليس خطيئة، كشيء مقدسٍ، وليس إثمًا، كان تَجَلّيًا.

لكن جزء مني طمعان. جزء مني يتمنى لو أن الْجِنية اتخذت شكل امرأة بشرية ذات جلد ناعم، وشفاه دافئة، وأعين ساغبة. جزء مني يتمنى لو أنها لم تأت من “عالم المجهول”. لو أنها عوضًا جاءت من واقع مَلْمُوس وفوضوي. امرأة بالإمكان لمسها، شمها، تذوقها. لكنني أفهم أنك ربما كنت مقيدة. ربما كانت هذه هي الطريقة الوحيدة لتُصوٍّري امرأتين متحابتين.

ربما يمتد المجاز إلى أبْعَد من جسد الحَيّة كمجهول. ربما كنت تتحدثين عن جسدك. خلال نشأتي، بدا جسدي غريبًا عليَّ. دخيلًا حتى. عندما ألمس نفسي، كانت طبقة من الملابس دائمًا تفصل الأصابع عن الجلد. كلانا أتت من مجتمع لا يشجع استكشاف الذات. أشعرتِ بنفس الشعور؟ أقلصتِ التضاريس الشاسعة لجسدك بحيث لم تعد مرئية بسهولة؟ أتعجبتِ وارتعدتِ في آنٍ من البلل بين ساقيك، قوس وركيك، واستدارة ثدييك؟ ربما على إحدى النساء أن تكون حَيّة، حتى تتمكن من توجيه أصابع عشيقتها إلى كل ركن من جسدها، لتنزلق عبر كل نتوء على جلدها، لتعلمها كيف تقرأ وتحب نفسها. ربما الحَيّة هي المرأة، والمرأة هي الحَيّة. من تعرف؟ أتمنى أن تخبريني. لم أكن معجبة أبدًا بالغموض. سوف أصنع لك كوبًا من الشاي بلبن، وأحضر علبة من البسكويت، ويمكنك أن توضحي كل مقصد وخيار اتخذتهِ.

لقد تُقت لقراءتك باللغة العربية، تخيلتُ كيف سيكون الأمر لو كبرتُ على قراءة قصتك وقصصٍ تشبهها، لو لم يتم محوك أو بَتَرِك. بحثتُ عن النص الأصلي في المكتبات، على الإنترنت، لكن في كل مرة أسأل كان الناس يسألون بحيرة: “من هي أليفة رفعت؟ أهي كاتبة جديدة؟” اكتشفتُ أنك معروفة جيدًا في بلدان أخرى فقط. غالبًا ما تُقرأ كتبك باللغة الانجليزية بتكليف من دور نشر تفضل النمط الاستشراقي. شعرت وكأنني فقدت شيئًا من جديد. تعلمت منك، لكنني لم أجدك. وجدت قطعًا متفرقة منك هنا وهناك. مقال يصف أعمالك بأنها “جَدليّة”، ومقال آخر عن حياتك (أو ما هو معروف عنها)، من تزوجتِ، متى ولدتِ، أين عشتِ. ما أردته هو مذكرات لأفكارك، فرضياتك وآمالك، بكلماتك، وليس مجرد قوائم تواريخ وأسماء.

لكن من كنتِ؟ لقد قضيتُ وقتي في اختلاق قصص. هل كانت لديك حبيبة متخفية كـ “صديقة مفضلة”… قصة تشبه قصتي. هل اشتهيتِ، أحببتِ، رغبتِ في امرأة. أتمنيتِ قصة مختلفة، شيئًا يتجاوز واقعك المباشر؟ ألهذا كانت الطريقة الوحيدة التي تمكنت بها من تخيل حب امرأة توجب على تلك المرأة أن تكون من واقعٍ موازٍ؟ عالم يتجاوز حياتك اليومية المباشرة.

ما زلتُ ألعب لعبة التخمين والكتابة، وأُعيد كتابة قصتك. أفعل الشيء ذاته مع نفسي، أمحو وأُعيد الكتابة، أتمزق بين المُسْتَتِر والمَنْظُور. حربٌ بين العوالم التي بناها الآخرون، والعوالم التي خلقتها لنفسي.

عندما كنت صغيرة، تخيلت أن هناك صندوقًا داخليًا كنت بحاجة لملئه. في محاولة لمعرفة من أنا، بحثت عن أشياء هنا وهناك، أشياء صغيرة ارتبط بها. كنت أحاول إنشاء أرشيف يساعدني على فهم العالم. حاولت ملأه بقصص أستطيع لمسها ورؤيتها وشمّها. قصص أستطيع أن أتنفسها بألفة. حاولت ملأه بقصص أنيقة، تتناسب معًا، متسقة، لكن في النهاية، ملئ بالتناقضات والفوضى.

 أنا عالقة مع هذا النص، ترجمة لقصة كَتبتِها بنفس اللغة التي نشأت عليها، تذكير لما تُرَجِم وما مُحِي.

أتساءل أين أنتِ الآن. آمل أنه عالمٌ دون أسماء مستعارة، أو خوف أو ذنب. عالم مألوف أكثر من ذلك المجهول.

جَمّ المحبة والسلام لكِ.

 

قارئة

 روي الجذور

Share Button

مقدمة اختيار

بدأنا مشروع هذه الإصدارة منذ شهور فقط، لكن يبدو لنا من مكاننا اليوم أنها كانت حياة أخرى، عالم بعيد تماما، انقلبت أحواله وقلّبتنا بعنف، قبل أن نعتد أوضاعنا الجديدة. يكفي تأريخ الإصدارة بالعام ٢٠٢٠ لتستدلين على ما مررنا به، محررات وكاتبات ومترجمات، خلال فترة إنجاز مشروعنا (الرومانسي) المشترك. بقدر ما فُرضت علينا أسئلة ملحة وصعبة هذا العام، عن السياسة والعدالة والثورة والصحة العامة الإنتاج والامتيازات الطبقية والعنف الجندري، بقدر ما ظللنا متمسكات باستكمال مشروعنا. 

تضم إصدارتنا كاتبات وشعراء نسويين/ات من مصر ولبنان والجزائر والسودان. على المستويين العام والشخصي، واجهنا – كما واجهتُنّ – آلامًا وصراعات كبرى في لحظة زمنية مكثفة، غالبا سنقضي سنوات عدة لاستيعاب ما حدث بها والتعامل مع أثره. وباء عالمي، عزل وعزلة وتغيير أنماط الحياة والعمل اليومية والعلاقات الأسرية، ثورات وأزمات اقتصادية وحرائق وانفجارات فساد مدمرة، كلها حدثت لنا أو بالقرب منّا بدرجات مختلفة. اختبرنا الفقد وآلامه بموت ذوينا ومعارفنا بمرض لعين مباغت، وانتحار رفيقاتنا الأكثر هشاشة في مواجهة اكتئاب اللحظة. فقدت إحدى كاتباتنا أباها ثم عادت بعدها بأيام للتواصل معنا، واستقبلت الثانية تعليقاتنا التحريرية وهي تنتظر بجانب أمها بالمستشفى حتى التعافي، وتعرضت أخرى للاحتجاز على هامش أحداث ثورة محبطة واعتذرت عن المشاركة، ثم عادت لتنضم إلينا مع أول فرصة للتنفس. تختفي المكلومة أيامًا أو أسابيع، ثم نعاود التواصل والمناقشة والكتابة والبوح. كم نحن، محررات الإصدارة وفريق اختيار الأكبر، ممتنات لكل كاتبة ومترجمة ورسامة شاركت معنا رغم وطأة الظروف وأعطت جزءًا من روحها ووقتها لإنتاج هذا المنتج المعرفي الجاد والمسلي بنفس الدرجة، لعله يمنح قارئاتنا شيئا قيمًا يحملنه معهن ويتخففن به وسط أجواء انهيار العالم. فخورات بكن إلى أبعد حد. 

تفتح هذه الإصدارة نقاش حول الهوية والأدب.  نبحث عن إمكانية وجود أدب نسوي، تحرري، كويري، قادر على كسر حالة هيمنة التصورات الأبوية والمعيارية الغيرية على أدبنا العربي. نتسائل عن ماهية هذا الأدب وكيف ترسى معاييره وترسم سياسات التمثيل به. لهذا السبيل، ندقق النظر في أعمال أدبية نرى فيها ملامح وجوه وأجساد مألوفة لنا، وانعكاسات حيوات ورغبات وروايات غالبًا ما تهمش وتمحى وتنكر علينا. نبحث عن جذور، عن تاريخ. أو نصنعهم بكتابات جديدة طازجة. 

لطالما كان الأدب منجم الهويات المفقودة والمخبأة والهاربة. نرى فيه أناسا يشبهوننا ولو في تفصيلةٍ صغرى، اعتقدنا أننا فريدات في حملها ووحيدات في تخبئتها. نتلصص على حياة أبطال القصة والقصيدة أملًا في أن نجد أثرٍا لشيءٍ ما يمثلنا، أن نجد في كلماتهم ما يصف مشاعرنا المعقدة التي عجزنا عن إعلانها مهما حاولنا مرارًا. أملا في ألا نكون وحيدين ولو لعدة ساعات أو دقائق. نبحث فيما بين السطور عنا، ننبش نبشًا، نزيل طبقات اللاوضوح التي تفرضها الرقابة على الكاتبات والكتاب، لنجد أسفلها رسائل تلمسنا.  نأمل أن تأويلنا للنص لم يذهب بعيدًا جدًا عما أرادته كاتبته، أن نكون قد عبرنا جسر التواصل الانساني وفهمنا النصوص المضمنة والرسائل الخفية وراء النص. ثم ماذا إن ذهب، هو تأويلنا وهي قراءتنا.

  فعلان نناقشهما هنا؛ فعل الكتابة وفعل القراءة، وما يمثلانه للهوية، هوية من تكتب وهوية من تقرأ. تركت لنا العديد من الكاتبات والشاعرات والمنظرات – عادًة النسويات – أعمالًا كتبن فيها عنهن وعن مشاعرهن تجاه نساء أخريات، مشاعر لم تكن بالضرورة مشروعة في مجتمعات أبوية تخاف النساء وطاقاتهن. كتبن بشكل مراوغ عن العالم، عالمهن هن، عن التجارب المخفيّة، وعن تلك الأصوات الداخلية عالية الصوت، ودسسن العديد من الأسرار المضمنة في النص؛ أسرار عن الهشاشة، والقوة، واستراتيجيات العناد والمقاومة. أسرار تبوح بهويتهن، لكنها تتخفى من مقص الرقابة، وتستقبلها فقط من تفهم تلك الأسرار وتعيشها. تلاعبن بالاستعارات بأشكال مختلفة لترسمن لنا علامات الطريق، لأولئك اللاتي قيل لهن مرارًا وتكرارًا أنتن مجنونات، هستيريات، مرضى، شواذ! نصغي  للسطور منتبهات لكن معنى خفي ومقصد مشفر  باحثات في مرآه الأدب والتاريخ، كارهات لما تعكسه احيانًا من  فراغ ولا شئ سوي الفراغ! يكتبن فتتنفس هوياتهن المقموعة، نقرأ فتتنفس هوياتنا. نبحث في تلك القصص والمذكرات والخطابات عنا؛  نحن العاديات، الحقيقيات، اللا بطلات، من لم نخلق من وهم الرجال في صورة  منحصرة  في التضحيات والعطاء غير المشروط.  لسنا فاتنات أغانيهم وحسب،  لسنا ملائكة ولا شياطين، وبالتأكيد لا تنحصر هوياتنا في كوننا أمهات وزوجات وبنات أحدهم. 

في بداية الإصدارة نعرض قراءات تحليلية، إما مراجعة لعمل أدبي شهير أو اشتباك مع حياة وأعمال كاتبة بعينها. في بعض هذه الكتابات تنسج الكاتبات مقالات بين النقد والشعر والرواية الشخصية، وكأنما يُقِمن حوارات تقن إليها كثيرًا مع كاتباتهن المفضلات. رسائل مرهفة وحساسة وشخصية للغاية، ولا تخلو أبدًا من السياسة. يلحق ذلك في الإصدارة كتابات أدبية وشعرية كويرية عربية، ننشرها ونحن مؤمنات بأهمية كسر حواجز النشر العديدة والمشاركة – ولو بتواضع – في إتاحة مساحات للنشر الأدبي أكثر تحررا ورحابة للجميع. نختتم الإصدارة بنص مترجم ملهم، يجمع ردود كاتبات نسويات ومثليات  على سؤال “لمن تكتبين؟” لنستمتع بقراءة أدمغتهن واستراق نظرة على جمهورهن المتخيل، ولنتعلم عن غنى تجربة الكتابة، – لا سيما الكتابة النسوية – من كاتبات سبقننا بأربعة عقود في جغرافيا بعيدة ببلاد الشمال. 

نحب ختامًا أن نرسل تحية واحتفاء صادق لنصوص لم تولد بعد، وُئدت قبل ميلادها، أو ولدت وخُبئت، أو فقدت صاحبتها صلتها بها قبل الأوان. نصوصٍ كان من المفترض أن تنضم للإصدارة، استلمنا أفكارها وآمنا بها، لكنها لم تنجح في أن تتطور لمسودات مكتملة بعد. نأمل أن نراها يومًا ما منشورة ومقروءة ومؤثرة. قد يكون الاحتفاء بنصوص لم تكتمل ولم تنشر غير تقليدي. قد يرى البعض أن هذا الاحتفاء لا مكان له ضمن مقدمة إصدارة ويأخذ من مساحة تقديم نصوص اكتملت بالفعل. لكننا نعارض. ندرك أننا نعاني من تمييز وعنف بنيوي ممنهج، يستنزفنا ويسرق منا طاقاتنا وأوقاتنا. يهددنا طوال الوقت بعقوبات قصوى، مجرد تخيلها يحثنا على قتل خيالنا بأنفسنا قبل أن يأخذ براحه ويبوح ويعلن عن نفسه وعنّا. كم من امرأة أرادت أن تكتب ولم تكتب؟ كم من نسوية، مثلية، مزدوجة الميول، عابرة وعابر جنسيًا، تملكت منه/ا شياطينها أو شياطين الآخرين ومنعتها من التعبير عما تراه؟ هل نفكر حين نبحث إمكانية إنتاج أدب كويري وخلق مساحات، لنشره وتوزيعه في تقاطعات الطبقة والعرق والجندر؟ أن نسأل بصدق وجدية: لما لا نقرأ لعدد أكبر من كتاب وكاتبات فقراء؟ داكني البشرة؟ لا ينتمون للمعيارية الغيرية؟ هل لانعدام وجودهم أم نضوب موهبتهم أم لأنهم كسالى؟ أم لأسباب أكثر بنوية وتجذرًا وتعقيدَا من ذلك؟ نرى أن مناقشة كهذه تقع في صلب موضوعنا. 

أن نكتب، أن يكن لنا صوت ووجود وحضور وحاضر وتاريخ موثق. أن يُمحي كل هذا، هو أن نُمحى نحن، وأن تُحرم أجيال قادمة – كما حُرمنا – من أي صلة بجماعة بشرية تشاركها همومها وطموحاتها. أن تعاني كل منهن كما عانت كل منا سنوات دون أمل أو رغبة في حياة زائفة ندعي فيها غير حقائقنا. نكتب لنروي حقيقتنا، لتحظى روايتنا، أو رواياتنا المتعددة، بمكانها المسلوب من واقع مجتمعاتنا وتاريخها. نكتب لنروي بقايا جذورنا التي اجتزّت وتُجتز أمام أعيننا كل يوم بشكل ممنهج، كي لا تُنبت لها نبتة. يمنعوننا… وإن قاومنا المنع يمحون أثرنا الذي تركناه. نكتب وننشر لنحيي الأثر، ولأننا بالأساس لا نرضى بغير أن نبقى ونرسّخ جذورنا. 

فريق التحرير

Share Button