كتبت: سارة ناجي
يوم في حياة أم مغتربة في زمن الكورونا
أغلقت المدينة أبوابها، سُكرت المطاعم والمقاهي، أُقيمت مستشفيات العزل وقُننت الكمامات، دُشنت خطوط الهواتف العاجلة لتقديم المساعدة، تباعدنا اجتماعيا وأصبح نظام التعليم عبر الإنترنت. وفي غضون شهور، وجدت نفسي وحيدة في بلد غريب مع أطفالي، لا يمكنني الخروج لأن الوباء يتربص بنا في الخارج. أغلقت بابي في وجه كورونا، لكن كان هناك من يلاحقني داخليا؛ ففي أعماقي كان القلق والحزن ينهشاني نهشا بعد أن تضاعفت مخاوفي أثناء الوباء. ممن أخاف؟ أخاف من أشباح ذكريات الماضي. لماذا؟ تلك قصة طويلة للغاية، تعود جذورها إلى طفولتي المبكرة. لكن سأحكيها لكم:
حين كنت صغيرة، عشت رفقة عائلتي في المملكة العربية السعودية. ولما آن أوان العودة إلى أرض الوطن لم نعد خالين الوفاض، بل كان رأسا أبي وأمي محملان بالفكر السلفي الوهابي. ولأننا من صعيد مصر، فقد امتزج هذا الفكر الوهابي مع العقلية الصعيدية، ليكونا معا خليطا رهيبا من الممنوعات. لا مسلسلات ولا أغاني ولا أفلام ولا لعب في الشارع ولا اختلاط بالآخرين. لم يكن يوجد سوى أفلام الكرتون، بمواعيد صارمة تحددها أمي. لا صوت يعلو في المنزل فوق صوت صراخ أبي وأمي والشيخ الذي يتحدث عن عذاب القبر.
لم أفكر يوما في التمرد على سلطة والديّ، خاصة بعد ما حدث لإخوتي. فمثلا في أحد الأيام، جاءت أختى الكبرى بديوان شعر لنزار قباني، فلما رأته أمي أحرقته بالنار ثم لسعت يد أختي قائلة لها أن تلك اللسعة لا تساوي شيئا أمام نار جهنم. وقتها قررت ألا أُغضب أمي أبدا، ولهذا التزمت بأداء الصلوات وحفظ القرآن، وعكفت على مذاكرة دروسي خوفا من غضبها. لكن كل هذا لم يشفع لي عندها حين جاء اليوم المشئوم.
وفي أحد الأيام تعرضت للتحرش. ولأني غبية للغاية، قررت أن أخبر أمي التي جاء رد فعلها مفاجئا لي، إذ أبرحتني يومها ضربا، وقررت أني يجب أن أرتدي الحجاب في اليوم التالي. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ كانت تشتري لي دوما ملابس واسعة للغاية. وفي كل مرة أنزل إلى الشارع تسألني حين عودتي عما فعلت؟ ومع من كنت؟ حتى أدركتُ بمرور الأيام أنها تشك في سلوكي! كيف تأكدتُ من ذلك؟ حين كنت في الصف الثاني الإعدادي، تزوجت أختي الكبرى وأقيم زفافها في إحدى فنادق المدينة. وأثناء حفل الزفاف ذهبت إلى الحمام، وفي طريق العودة أوقفني أحد العاملين في الفندق ليسألني عن أمر ما. جاءت أمي في تلك اللحظة وهي غاضبة بشدة ومصممة أنني قد قضيت الوقت بصحبة هذا العامل في إحدى غرف الفندق!
بعد ذلك أصبحت أخاف بشدة؛ من كل شيء ومن أي شيء، حتى أصبحت أمشي في الشارع وأتلفت حولي. وحين جاءت المرحلة الثانوية، حصلت على مجموع مرتفع وقررت دخول إحدى كليات القمة، لا طموحا مني ولا حبا في الكلية، لكن حتى أهرب من البيت. لم توافق أمي على سفري من الصعيد إلى القاهرة الكبيرة، لكن أبي وافق على مضض في نهاية الأمر وهربت من البيت بهذه الطريقة.
انتهت سنوات الكلية بسرعة، وخفت من العودة مرة ثانية إلى البيت. ولهذا قررت أن أستكمل دراسة الماجستير رغم عدم حبي لمجال دراستي. وهكذا مكثت سنتين إضافيتين في القاهرة، وحين جاء أوان العودة، قررت أن أتزوج أول شاب تعرفت عليه في القاهرة حتى لا أعود إلى البيت. تزوجت بسرعة شديدة دون أن أتعرف عن قرب على زوجي ودون أن أكلفه شيئا. وبعد الزواج، اتضح أنني كنت مخطئة، لكن فات أوان الندم خاصة مع وجود أطفالي. والآن حان موعد إغلاق سيل الذكريات لإيقاظ الأطفال.
في الصباح.. كاتبة ومحررة ومعلمة
أستيقظ كل صباح في تمام الساعة السابعة. أحضر الإفطار ثم أوقظ ابني الأكبر ليحضر دروسه أونلاين. أجلس برفقته قليلا لأن الدورس ليست باللغة العربية، وعليّ أن أمده ببعض المساعدة. بعد الانتهاء من الدروس، أنظف المنزل وأفتح حاسوبي من أجل العمل. أطلع على آخر الأخبار وأحضر مادتي التي سأعمل عليها. وفي أثناء ذلك يقاطعني أطفالي مئة مرة، فقد تعودوا أن يلعبوا ويتشاجروا حولي بصوت مرتفع. كثيرا ما أفقد السيطرة عليهم تماما، وأفقد السيطرة على نفسي لأنهمر في البكاء، لكن ليس لوقت طويل إذ ينادي عليّ صغيري تميم لأصب له بعض اللبن، ويرسل لي مديري بريد إلكتروني بضرورة الانتهاء من التقرير الذي سيُنشر اليوم. أنتهي من المادة وأرسلها لأساعد ابني في واجباته المدرسة.
في الظهيرة.. وقت الطعام واللعب
فور أن أغلق اللابتوب، أذهب إلى المطبخ لإعداد طعام الغذاء. لا يحب أبنائي أصناف الأكل نفسها، لذا أطهو أصنافا مختلفة. وبعدها نلعب سويا. يفتقد أبنائي مصر بشدة، ويشعرون أنهم عالقون في هذا البلد الذي فرض عليهم عدم الخروج إلا في ساعات قليلة. كل يوم يخبرني تميم الصغير أن “مصر مفيهاش كورونا، يلا بينا نرجع، عايز أشوف جدو وتيتا”. أحاول قدر الإمكان أن أنتزع من داخلهم إحساس الوحدة الموحشة لكن دون جدوى، فالوحدة أضحت مثل شبح يخيم علينا من علٍ دون أن ننجح في السيطرة عليه.
لا أحب أن يقبع أطفالي لوقت طويل أمام الشاشات، ولهذا حاولت أن أعرفهم على عالم طفولتي البعيد، حين كنت أشاهد “عهد الأصدقاء” وكرتون “أنا وأخي” على قناة سبيستون. يأتيني من يوتيوب صوت رشا زرق الملائكي ليعيدني إلى سنوات طويلة مضت. تتسلل الذكريات بين جوارحي لتملأ قلبي حنينا وألما. أنظر إلى نفسي الحالية لأجد أنني تغيرت كثيرا، وأكتشف أنني خُدعت من تلك الحكايات، وأعددت نفسي لعالم لم أكن أعرف عنه شيئا. فالخير لا ينتصر دوما على الشهر، والحياة قد لا تهدينا أبدا ضوءا في آخر النفق. وحين أفقت من غفلتي، لم يكن أطفالي يشاهدون معي ذكرياتي، فقد انسحبوا للعب بمكعباتهم الجديدة. حسنا، ربما ذلك أفضل. حين يكبرون، سأعلمهم أننا لا نملك عصا سحرية لتغيير الواقع، لكن علينا دوما الإصرار والسعي للحصول على ما نريد من الحياة.
في المساء.. أنا بصحبة القلق
يخلد أطفالي للنوم أخيرا بعد أن ينتزعوا مني وعدا بأن نفكر في العودة للوطن في أقرب وقت ممكن. وبجانب السرير الصغير، يضع طفلي حقيبة سفره، ويضيف إليها لعبة كل يوم ويقول “ماما، أنا هاخد معايا العربية الحمرا وأسيب الخضرا”، ليقرر في اليوم الثاني أن يأخذ السيارتين.
في الليل، أشعر كأنني سأسقط مغشيا عليّ. أعيد أحداث اليوم مرارا وتكرارا، وينتابني خليط كبير من المشاعر يطغى عليهم جميعاً الإحساس بالذنب تجاه أطفالي الصغار الذين وجدوا أنفسهم فجأة بمفردهم، ويجب أن يكونوا على مسافة من كل الناس في الشارع. يأتي بعد ذلك الإحساس بالخوف؛ الخوف على حياتي وحياة أطفالي، الخوف من أن أفقد وظيفتي غير المستقرة بالأساس، والخوف من ألا أتمكن من دفع إيجار البيت وفواتيره الباهظة. إنها سلسلة لا تنتهي من الاضطرابات التي تشكل معا عالمي الحالي.
أستعيد فجأة سيل الذكريات الذي ينهمر دون توقف، إذ قرر زوجي في أحد الأيام أن نترك شقتنا المستقلة لنعيش في بيت عائلته. وكانت هذه بداية جحيم آخر، إذ كانت والدة زوجي وإخوته يتفننون في مضايقتي بكل الطرق؛ لماذا ترتدين البناطيل؟ أنت متزوجة، هل تحبين أن ينظر إليك الرجال؟ هنا أدركت أن شبح أمي أصبح لعنة تطادرني من جديد. لماذا يظن الجميع أني أركض وراء الرجال؟ وماعلاقة ملابسي بهذا الأمر؟ من وجهة نظر والدة زوجي، فالمرأة المتزوجة لا يجب أن تهتم بمظهرها أثناء الخروج للشارع. اشتدت المشكلات بيني وبين زوجي، ولأنني شخصية تهوى الهروب ولا تتقن سواه، قررنا أن نبدأ حياة جديدة في مكان آخر. لكن لم تسر الأمور بشكل جيد، لنقرر أن نأخذ استراحة أتحمل خلالها كل العبء وحدي. كيف يمكن أن نسمي هذه الفترة استراحة؟!
أن يحبكِ أحدهم لأنك تقومين بعملك على أكمل وجه، ثم يغضب فجأة لأنك تركتِ الأطباق غير النظيفة في الحوض لهو أكبر لعنة على الإطلاق. يرسل لكِ هذا الشخص إشارات متضاربة، فهو يحبك ولا يحبك، يحترمك ويحتقر كتاباتك، يمنعك من ارتداء الملابس التي يراها غير مناسبة ثم يتغزل في البنات الأجنبيات.
ينضب شغفي تجاه كل الأمور التي أحببتها يوما أسرع مما أتخيل. لا أدري تحديدا كم عدد الأيام والليالي التي قضيتها دون ونيس، حتى اكتست أيامي بحلة الوحدة. أفكر جيدا في العودة للوطن، لكن لا ينتظرني أحد هناك. أنهمر بشدة في البكاء، ثم أكفكف دموعي لأذكّر نفسي أنني لا أملك تلك الرفاهية. أطمئن على أولادي وأغطيهم جيدا ثم أعود للنوم، فأمامي غدا يوم طويل جدا.