عقدت اختيار الدورة الثانية للحلقات الدراسية عن النوع الاجتماعي في نوفمبر 2015، والحلقات هي جزء من قناعتنا بأهمية التعلم والنقاش الجماعي وجاء اختيار المواضيع التي تم مناقشتها بالتعاون مع مجموعة من المحاضرين والمحاضرات المهتمين والشغوفين بالنسوية، والنوع الاجتماعي، والجنسانية ودراسات ما بعد الاستعمار، وغيرها واقترحت المحاضرة أندرية طال خلال جلستها، أن تقوم بمناقشة نص سارة أحمد، الكاتبة والباحثة النسوية البريطانية-الاسترالية، في حلقة حول المشاعر السيئة، لاستكشاف العلاقة بين المشاعر واللغة والأجساد والهويات… لم تكن الجلسة سهلة، فبطريقة ما، واجهتنا بما نحاول تجاهله يوميًا منذ الاستيقاظ، سواء بالانشغال في العمل، أو بالقراءة، أو بالجلوس على المقهى… واجهتنا بما نحاول أن نخفيه يوميًا أثناء صراعنا لنكون موجودين، صراعنا من أجل النجاة. أعادتنا النقاشات للمقولة التي نذكر أنفسنا بها دومًا أثناء عملنا “أن الشخصي سياسي” وإذا كان الشخصي سياسي، فما الذي يعنيه أن تكون بعض مشاعرنا الشخصية مرفوضة، أي مشاعرنا السيئة، فلا يمكن التعبير عنها لأن السياسي يفرض علينا ألا نيأس، وإلا نكون خونة، أن نكون أقوياء وإلا وصمنا بالتخاذل، يُرَفض المواطن الحزين والمواطنة غير المنتجة، يُعَزل الفرد غير المبتسم.
إن العيش في واقع سياسي مضطرب ومتغير قد ترك أثرًا في حياتنا اليومية وفي وعينا الجمعي؛ الكثير منا حالته النفسية تتراوح ما بين الاكتئاب، والغضب الشديد، والشعور بالذنب، والتبلد، والحزن الدائم، وعدم القدرة على فعل أي شيء. ربما ما حدث في تلك الجلسة -التماهي مع نص سارة أحمد وأبجدية المشاعر السيئة بالإنجليزية التي عرضتها أندريا، وتشرحها في مقالها في هذه الإصدارة- هو تشكل ذلك الإدراك بأننا لسنا بخير، وكل شىء “ليس على ما يرام”، وأن مشاعرنا السيئة تلك، تشعرنا بمرارة ما، ولا نريد أن نشاركها، ولا نريدها أن تَحُدنا لكنها حقيقة تَحُدنا وتوقفنا. طُرحت آنذاك تساؤلات عن مدى استمرارية الحركات ما دام الأفراد الناشطين فيها ليسوا بخير، وليس لديهم/ن الدعم النفسي والمجتمعي؟ تشاركنا التجارب المتعلقة باكتئابنا، وتلك التي لم تؤخذ فيها احباطاتنا وحالاتنا النفسية بجدية، ولم تحترم. تساءلنا عن كيفية اِعتنائنا بمشاعرنا ومشاعر غيرنا.
انتهت الجلسة بالعديد من الأسئلة والمشاعر المختلطة، وقُدم اقتراح من العديد من المشاركين والمشاركات، بجمع أبجدياتنا الخاصة، مشاعرنا كما نعرف من الألف إلى الياء، وهكذا نشأت الأبجدية فكرة ومستندٌ فارغ، يمتلىء يومًا بعد يوم بمشاعر فردية وعامة نحملها يوميًا ويغطيها شعور الذنب فلا أحد يريد أن يكون هو الوحيد/ة القاتل/ة للبهجة ومفسد/ة سعادة ووحدة الجماعة أو الحركة التي ينتمي إليها؛ يمتلىء المستند يومًا بعد يوم مؤكدًا أننا لسنا الوحيدين الخارجين عن المسيرة التي تعِدُ بالأمل والسعادة، ماذا نفعل بمشاعر السعادة التي يجبرنا نظام استهلاكي على تبنيها لنكون أفراد منتجين ناجحين، حيث يظل السؤال المطروح، ماذا نفعل بوجود هذه المشاعر السيئة، وكيف يمكننا أن نتوقع وننتظر من الحركات والدوائر المختلفة تقبل ودعم الأفراد بها ونحن لا نعرف كيف يمكننا أن نفعل هذا بين بعضنا البعض كنسويات ونسويين؟
للمرة الأولى نقوم بعمل من هذه النوعية، أي محاولة توفير مساحة لتفكيك فكرة سياسية المشاعر والنقاش عنها وتأكيد أهميتها ووجودها. العملية كانت تجريبية ما بين فريق عمل اختيار ومركز الصورة المعاصرة واستمرت لمدة خمسة أسابيع، لقاء أسبوعي بمقر اختيار نشارك فيه ليس فقط كمنظمين للجلسات، لكن أيضًا كجزء من هذه العملية، اختلفت الأساليب التي تم استخدامها من أسبوع لآخر، ما بين الكتابة، والحكي، والرسم، والصمت، واختيار كل فرد المشاركة بطريقته. كتبنا كثيرًا وقرأنا لبعضنا البعض أحيانًا، جاءت الكتابات انعكاسًا لما ناقشناه عن نظرية التقاطعية وما تعرضه من تشابك بين العام والخاص، والتعب النفسي؛ وتحدثت الكثير من النصوص التي كُتبت في الجلسات عن الانتقال ما بين المشاعر السيئة التي لم تنتج فقط عن الوضع العام، لكن أيضًا عن وضعنا الخاص، وعن وجودنا كنساء، كويريين، خارجين عن الأدوار النمطية للنوع الاجتماعي (الجندر)، عن رفضنا للتقاليد المجتمعية القهرية، ورفضنا لتعامُل منظومة الطب النفسي مع المشاعر السيئة كمرض يتم علاجه بالأدوية والعقاقير فقط … فنحن لا نقبل تعامل المجتمعات والحركات الصغيرة والكبيرة مع مشاعرنا كهستيريا أو رغبة في جذب الانتباه، أو كوصمة وعبء يجب التخلص منه لضمان الاستمرارية تحت شعار القضية الأكبر أو الأولويات أو أهمية فصل مشاكلنا الشخصية عن عملنا، فيترك لنا خيار وحيد وهو عدم التحدث عما نشعر به، فلا نسمح لأنفسنا بطلب المساعدة فيما بيننا، كيلا نصبح عبء على الآخرين.
انتهت الخمس أسابيع برغبة المشاركين لعرضِ بعض من كتابتهم في معرض “مزمن” وهو ثاني فصل من مشروع “لو لم يكن هذا الجدار” المقام في مركز الصورة المعاصرة في محاولة لتسييس التعب النفسي وإدراجه في الوعي المجتمعي والسياسي العام، وذلك في أبريل 2016.
في النهاية، نتمنى من خلال نصوص هذه الإصدارة، أن نزيل شباك العنكبوت عن المشاعر السيئة المخزونة في داخل كل منا، سواء عرفنا أنفسنا كناشطين سياسيين أو اجتماعيين أو بشر، أو أفراد يريدون أن يفصحوا عن ذاتهم. تحتوي الإصدارة على سرد لتجربة العمل على المشاعر في السياق المصري والتحديات العديدة التي واجهت تلك العملية، وأبجدية للمشاعر السيئة كما تعبر عنها اللغة العربية، وترجمات لنصوص نظرية ونسوية لكل من سارة أحمد وسارة سالم. لا تأتي هذه الإصدارة بإجابات أو نظريات تقدم لنا حلولًا أو وعودًا بالفهم والسعادة بل تطرح سؤالًا: إن لم نكن وحدنا في خضم كل هذه المشاعر السيئة، فلما نشعر بالوحدة ونحن نعانيها؟
اختيار